جوازي الأسود.. انتهى! ( بقلم: أمين اليافعي )

[أبو عامر اليافعي]

جوازي الأسود.. انتهى! ( بقلم: أمين اليافعي )



القاهرة – لندن " عدن برس " : 3 – 5 – 2008
ليس بالمصادفة العجيبة التي يمكنها أن تردي بي في تخوم التنجيم وتجعلني أضرب كفاً بكفٍ انتهاء مدة صلاحية جواز سفري في يوم السابع والعشرين من أبريل الفائت، وهو ذات التأريخ المصادف لإعلان الحرب على هويتي الجنوبية قبل 14 عام!..


وفي الحقيقية، لا يمكنني إخفاء أن أمر التوافق التاريخي هذا ـ بين إعلان الحرب وانتهاء بطاقة هويتي اليمنية ـ استوقفني لبعض الوقت، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي ألحظه فيها بالرغم من مرور ست سنوات على استصدار الجواز والذي عادة ما يترافق فيه تأريخ الاستصدار مع تأريخ الانتهاء..

لكن، وعلى مبلغ هذا التوافق العجيب، إلا أنه لم يُثر فيّ الكثير من الاندهاش ـ كما قلتُ ـ مما يحدو بي إلى افتراش مستقبلاً ما لأقلّب عليه صفحات طالعي كما ينصح المنجمون في مثل هذه المصادفات! بل جاء ليكرس لديّ عقيدة ظللتُ أتحاشاها منذ مدة طويلة وكانت دءوبة المحاولة في تسلقها إلى وعيي عن طريق تساؤلات لا حصر لها تناوشني بين الفينة والأخرى حين أشاهد هذا الجواز يترنح بجواري أو حين يستوقفني أمن المطارات في كل سفرةٍ نتيجة حملي له كمشتبه دائم بناء على فطرة هويته!..


"فما هي نوعية العلاقة التي تربطني به؟".. تحوم التساؤلات في مخيلتي مع هجمة الليل، ثم تنطلق: "في ماذا يعنيني؟.. لماذا يشتبهون بي بسببه وهو مفروضٌ عليّ؟!.. ولماذا محكوم عليّ أن أحمله وأتعامل به أينما حللتُ دونما الإحساس بالانتماء إليه أو أنه يخصني في شيء؟!.. لماذا تتواجد عليه صورتي واسمي ورقمي ومكان وتأريخ ميلادي؟(وكأن كل هذه البيانات تتواجد في المكان الخطأ!).. لماذا لا أستطيع التخلص منه كما تخلص "جاكوب" من حبته الزرقاء عندما شعر بعدم انتماءه إليها وهو على مشارف المغادرة رافضاً أن يستبقيها كذكرى؛ فهي من صنع بلاده: هكذا قال؛ بلاده تلك حسب أوراقه الرسمية فقط؟!..


لم اهتم به قط، ولم أسع إلى تغليفه والحفاظ عليه، ودائماً ما أقذفه بعيداً عني بمجرد الانتهاء من أجراء معين يتوجب عليّ حمله.. وإن سقط أو أنكمش أو تقطع إرباً لا يهمني ذلك أبدا!


وأعترف بأنني لا أُمنّي نفسي باللهاث وراء إجابات شافية يمكنها أن تسد رمق تساؤلاتي السابقة ولو بالقدر اليسير، ولهذا السبب، فهذه التساؤلات ستطول وستتشعب ولن تنتهي طالما بقي المسبب، وفي كل يوم ستلف في مدارات جديدة، والليل سيطول وسيتشعب أيضاً مع طول وتشعب الأسئلة..


ومع ذلك، فليس ما يؤرقني حالياً ـ خصوصاً في فترة انتهاء الهوية الرسمية ـ طول الأسئلة وتشعبها ولا اشتباكي مع ذاكرتي المكانية والزمانية ولا مع الظلام المتكدس في كل الأزقة.. فهذه الأشياء أمرها بسيط ويمكن التحايل عليها، لكن ما يؤرقني بالفعل: كيف لي أوفق في العيش بين شخصيتين؛ شخصية تمثلني وأنتمي إليها وتعبر عن هويتي وحقيقتي لكنها غائبة، وشخصية شبحية لا أرتبط معها بأي صلة ولا أطيقها غير إن أوراقي الرسمية تقرها!..


"ماذا لو كانت هويتي الحقيقية هي من تمثلني في أوراقي الرسمية وغير الرسمية؟.. كيف لي باستعادة شخصيتي الحقيقية والعيش في فردوسها وألا أبقى كـ "فسكوت" كالفينو المشطور؟!".. بهذه الطريقة ـ ذات صباحٍ مشرق ـ أخربش على صفحات ذاكرتي الطفولية وأصابع الاتهام موجهة إلى لحظةٍ ما بعينها، ألعنها، وأواصل خربشتي: ماذا لو كان بحوزتي الآن ذلك الجواز الذي لم أعرف لونه قط، لكنني أستطيع التعرف عليه بقوة من خلال موقف جدي الرافض لاستبداله قبل أكثر من عقدين من الزمن بجواز سفرٍ يتبع لإحدى دول الخليج فاحشة الثراء عندما عرضوا عليه موضوع "تجنيسه" بعد خدمته الطويلة هناك، فقال كواثق الخطى الذي يمشي ملكاً: "لن أتنازل عن النسر، ولا عن المثلث الأزرق"!!.. فرحم الله جدي الذي لو كان عاش قليلاً لكي يرى النسر الجديد وكيف أصبح يُتعامل مع حامله في هذه الدول؛ فقد أصبح كالنفايات تماماً تلتهمه النيران على الحدود إذ ما حاول التسلل إلى أراضيها و دون أن يعترض أو يلتفت أحد على هذا الحرق النفايي!!!


جدي الذي لم يكن مهتماً بقراءة الروايات، ولم يعرف قط السر الفلسفي في اللون الأزرق الذي توحد معه في مثلث العلم الشهير؛ فهذا اللون يحوي في هالته الحقيقة كما قال برتلف المتفلسف الروحاني في رواية "فالس الوداع"، اللون الممثل للانهايات "السماء والبحر".. وعلى الفطرة، ظل جدي مرتبطاً بهذا المثلث الأزرق ـ ككل جنوبي ـ ارتباط نبي برسالته، كان يرى فيه هويته وحقيقته، تلك الهوية الذي ظل مخلصاً لها كما لن يفعل أحد!


وعندما علم أصدقائي بأمر انتهاء مدة الصلاحية أخبروني بأن تجديد الجواز لن يستغرق مني سوى إجراءات بسيطة في السفارة، وسيتم خلال أيامٍ قليلةٍ إبدالي بجوازٍ آخر كي أستطيع النفاذ.. لكنه بالنسبة لي لن يكون إلا أسوداً كسابقه، وسجناً آخر.. سجنٌ تتجلى فيه خديعة العالم الكبرى التي أعيشها والتي فقدتُ في ثناياها السيطرة على حياتي عندما وجدتُ نفسي محكومة بقدرٍ ما لا أطقيه ولا ارتبط معه بصلة في إحدى لحظات وجودي كما أخبرني عجوز "الخيميائي"!


فهذه الهوية الرسمية لا تمثلني وأنا ـ حالياً ـ في غاية الاضطرار لأولي وجهي شطرها، و لا سبيل لديّ للتخلص منها! لكنني في كامل إدراكي لحجم البشاعة والقذارة التي تحملها عملية الإلغاء والطمس! فاحتلال أرض ما ونهب ثرواتها لا يساوي شيئا أمام تزييف وشطب الهوية الأصلية للفرد وإلحاقه ـ مكرهاً ـ بهوية أخرى لا تمت إليه بأي صلة!!