من حكايات أسير سابق ( سلسلة اجزاء )

[أحمد الربيزي]

بسم الله الرحمن الرحيم

14ــ ذكريات وحسره والآم

ذكريات متفرقة تراودني من وقت إلى آخر تحملني إلى غياهب السجون البشعة لم أعرف حجم مأساتنا ونحن هناك في الدهاليز التي يسمونها سجون وهي أبشع من أي تسميه ومن أي سجون تذكرت حين خرجنا إلى النيابة كم كان فضيع ذلك اليوم ونحن نتأمل الطرقات وهي مزدحمة بالسيارات الذاهبة والجيه همست في أذن طه السهيلي الحوثي وهو مربوط معي في قيد واحد : " والله عاد هناك حياة تدب في شوارع صنعاء " أفتهم له قصدي وضحك بحسرة لاحظتها في عينيه وهو ألذي قضي ألسنه الثالثة هنا في هذه السجون التي نسي فيها كل شي نسي حتى إن في عالم ما وراء هذه الجدران ألمرتفعه ما زلت أذكره وهو يحاور الضباط والجنود الذين حملونا أنا وهو وآخرين إلى النيابة حين يقول لهم : ماذا أقول للنيابة بعد ثلاث سنوات منذ اعتقلتموني أنا نسيت كل شي نسيت حتى أهلي ومن أكون ؟؟؟ ولم تمضي شهرين أو ثلاثة إلا وحكموا عليه لأكثر من سبع سنوات لو ما خانتني الذاكرة .
إنني أتذكر كيف كان يصنع أخي وصديقي أحمد القنع سندوتشاته المصنوعة من كل شي من خضروات منوعه ومن موز ومن جبن ومن حلاوة طحينية ومن فلفل وهي كما قال زميلي فؤاد راشد ماركة مسجلة للقنع وكان يوزعها علينا كلنا ويرسل منها إلى العميدين الذين يرزحا في زنازين القسم الشمالي السعدي والداعري مع التحية وكنا ننتظر ذلك مع قرب الفجر .
أن للحياة والحرية صوت وجدته في الزنزانة الجديدة ذات التهوية يتمثل هنا في صوت العصفور ( اليعجري ) كما نسميه في الريف وهو عصفور حسن الصوت وجميل وأعرف صوته الجميل ولا يغيب عن مخيلتي أبدا لونه الرمادي ولون رقيته ورأسه الأسود , أنه يمثل لدي صوت الحياة والحرية والجمال يمثل الأمل الكبير في التحرر من هذه الزنازين وتحرر بلادنا من الاحتلال المتخلف نعم لقد كان هذا العصفور الذي يأتي عادة في وقت معين وكأن لديه ساعة تنبيه ينشد فيها ويشدنا إليه فكم مرات قطعنا حديثنا أنا والأستاذ فؤاد لكي ننصت لصوته ؟!!! نعم ننصت إلى الحنين المتفجر في أعماق أعماقنا للحياة والحرية والجمال الذي لا يفصلنا عنها إلا جدران صماء لا تعي ولا تعبا لشعورنا الإنساني , ما زلت أتذكر ذلك وتراودني أحزان شتى أحزاني التي تجعلني أتذكر كل من زملائي الذين لازالوا يسمعوا ذلك العصفور وينصتوا إليه بكل مشاعرهم ووجدانهم مازالوا ينظروا إلى الحياة بشغف متمسكين بخيوط الضوء القادمة مع كل صباح تتسلل إليهم من نوافذهم الصغيرة ألمرتفعه في أعلى الجدران إلى السقف ومع كل تغريد جديد من هذا العصفور أو من غيرة أتذكرهم وهم يرحلون إلى كل مكان ولا يعيدهم إلا فرقعة أبواب الزنازين الحديد أو زمجرة السجان .
أنني أحسدكم أيها الأحرار نعم أحرار فيما نحن المأسورين لأننا لا نستطيع أن نعمل لكم أي شي يا ترى أيها العم قاسم يا ترى كيف تمر عليك هذه الأيام هل فيها ( حافي ) يدقدق بين أصابعك وفي باطن كفك ترى ما هي نسبة التفاؤل لديك يا سعادة السفير أنني أذكر حين كنت أمضغ القات ( مخزن ) عندك في زنزانتك وكنت أقص عليك ما كان يصنعه صديقي وأخي وزميلي صلاح السقلدي ونحن راقدين جنب بعض بعد طلوعنا إلى الزنازين الجماعية كان يوقظني من أعز النوم ليخبرني أن لديه حكوك في راحة يده (حافي ) وأن شاء الله خير قرب الفرج وكيف تمر أيام وتأتي ألينا وتشكي لنا أن هذه الأيام جافة وحتى حكوك باطن الكف ( الحافي ) ما عاد يحصل عندنا ترى كيف صارت الأيام بعد خروجنا من عندكم ؟!!
اعرف أنكم تتمنوا معرفة ما يحصل في الساحة الجنوبية من أخبار مفرحة كما كنا دائما نتشوق لذلك ؟!! أعرف يا سعادة السفير انك تتشوق لسماع أخبار الفعاليات والبيانات لم لا وأنت الذي فاحت عيناك بدموع الفرح وأخرجت صدق مشاعرها حين جئتك من زيارتي ومقابلة الأهل واستطاعوا أخباري بما يحصل من فعاليات حينها في محافظة شبوة وكانت كل يوم تحدث تلك الفعاليات فيها وقلت لك من ما سمعته من الأهل أن شبوة حراكها لا يختلف عن أي منطقة من مناطق أبين أو لحج .
تدري يا سعادة السفير وأنتم أيها الأعزاء فادي والقنع وأبنائنا أبناء أخوتنا أولاد الطماحين تدروا لا أخفيكم سرا أنني فعلا أحسدكم لسبب واحد فقط ( طبعا ما حد يحسد حد على السجن إلا أنا ) تدروا ما هو السبب أنكم لا تعلمون ما يستوي من مناطحات الثيران الاسبانية في حلبة التباينات بين ( قيادات ) الحراك تباينات لا مبرر لوجودها طالما أن الهدف واحد كما يدعي الجميع أنتم لا تعلموا بذلك وهي نعمة من الله فيما نتكبدها نحن كل يوم وكل بيان وكل تصريح وكل حركة وكل موقع وكل منتدى وكل أنانيه وكل و و ,
نعم أيها الصديق أحمد القنع لا أخفيك أنني مقصر مع أسرتك لا أدري ماذا أعمل من شانهم وليس بيدي حيلة
لا أستطيع أن أتحرك أي مكان أنني أشعر أن حريتي انتقصت بشكل أكبر من ما كانت عليه في السجن أو حتى قبل الاعتقال تدري كثرة التحذيرات من الكل أنتبه لا توقع من جديد !! والأولاد الى أين ذاهب ؟ !! يا أبي لا تتأخر !! بالإضافة إلى حرماني عملي وراتب أولادي ما قدرت وهذه حقيقة أن أزور أولادكم وهذا يتعبني
تذكرت با أخي قلقك على ولدك الكبير الذي حكيت لي عنه وحكيت لي أنك تخاف عليه من الشرود الذي يحصل له وكانت عيناك تفيض مرارة وكنت أقول لك ربنا هو الوحيد الكفيل بهم وهو الذي سيتولاهم من بعدنا وهو العزيز الكريم ولذلك لا تخشى عليهم وأمسك بحبله هو فقط

ماذا يا أبو حسن ( فادي باعوم) ماذا أقول عن ذكريات اللحظات القليلة التي كنت التقي بك فيها وأنت معلق في نافذتكم الكبيرة المطله على الشماسي تنصت للأخبار مني وتحكي لي عن حسن ولدك الذي ولدته أمه وحيدا ولم تتكحل عيناك بصورته ولا فطرت عيناه على صورتك كيف لا أذكر وأنت تحكي لي أن أمه تلومك على تنبيهاتك لها عند اتصالك بها " انتبهي لحسن" فتقول لك بالحضرمي ( وااااه كنك هو حسن أبنك لوحدك ) .

سنلتقي ونواصل