وما زال يدعوني إلى غيهب الدجى ..

[طائر الاشجان]

أتى على شعب الجنوب العربي حينٌ من الدهر تحول فيه إلى مجرد متلقي، عندما أوصد النظام كافة منافذ الإتصال بالعالم الخارجي ليتم تشكيل ثقافته وفق نمط معين ، يحدد فيه معالمه الحزب الإشتراكي : هو الذي يختار نوعية طعامك ، والكتاب الذي تقرأه ، والثياب التي تلبسها ، وحتى التخصص الدراسي يفرضه عليك ، ويجبرك على دخول كلية معينة لأن الدولة بحاجة إلى خريجين من هذا التخصص أو ذاك ، لا يمكنك الحديث إلا مع أبناء جلدتك وفق قانون صيانة الوطن ، وهو ذاته القانون الذي يُحرّم عليك التقاط صور في الأماكن العامة ، أو حتى ممارسة هواية صيد السمك ، ونمت هذه العقول بثقافة محلية صرفة ، ووجبات فكرية تم إعدادها بمقادير معينة ، قننت حدود المعرفة وحددت لها أفقاً غير قابلٍ للإتساع ، ومنعت سفرك خارج هذا السجن الكبير المسمى وطن ، وأوكلت إلى آذانٍ مقربةٍ منك مهمة التنصت لما تنبس به شفتاك ، وكلفت من يتولى عدّ أنفاسك في النهار ومقارنتها بمثيلاتها في الليل ، وللنشئ أن يُردد في الطابور المدرسي كل صباح القسم ثلاثي الأبعاد : " الدفاع عن الثورة ، وتحقيق الوحدة اليمنية ، وتنفيذ الخطة الخمسية " فكنت تفطر مسيرات وتتغذى مبادرات ، وتتعشى محاضرات ، ولشد ما كان التركيز على يمننة كل شيء حولك ، فالأناشيد الحماسية بصوت إيوب طارش عبسي ، والمرشدي يصدح بـ " نشوان " من تأليف سلطان الصريمي بنكهة تراثية يمنية ، وللتأكيد على يمنية الجنوب ينبري ذات الفنان ليصدح " أنا يمني اسألوا التاريخ عني أنا يمني " .. وعندما زال كابوس ليل الحزب ومضينا نسأل التاريخ جاءت الإجابة مخيبة للآمال ، ويفسر ذلك إصرار الحزب على يمننة الجنوب العربي ، حتى أصبحنا أكثر يمنية من اليمنيين أنفسهم ، وكانوا أكثر دهاءاً حين واجهونا بشعار " القانون لا يحمي المغفبيين " المهم في الأمر أننا وقد نفضنا عن الذاكرة غبار الأمس ، وغسلنا بدموع الأسى بقايا الماضي وآثاره في النفس ، ما زلنا نسمعُ صوت السجان ينادي : هلموا إلى معتقل من نوع فيدرالي لم تجربوه بعد !! وأشعر برغبةٍ تستبد بي في الصراخ بأعلى صوتي ! " كفى " وانتظروا يوماً تساقون فيه إلى ساحات القضاء ، تنتظركم محاكمات عادلة ، ولكم في مبارك أسوة يا بلاطجة الفكـر " المكيافيللي " فدروسكم لا زالت محفورة فوق حنايا الضلوع ، وأنتم من أفهمتم الكون :

كيف القلوب تُصلّبُ .. ويُنكّلُ الإنسانُ بالإنسانِ

تحياتي
طائر الاشجان