بضاعة قديمة بحلة جديدة .. خطر القوى الخفية على الثورات العربية

[المسعودي اليافعي]

من الملاحظ حتى الآن, إن ثوراتي الربيع العربي في كلاً من تونس ومصر, قد نجحتا إلى حد ما في تحصين ذاتهما من تأثير أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية, وأن تقفا عند مسافة معقولة لتفادي دسائس تلك الأجهزة, وتعامل قادة الثورتين بحكمة وحذر مكنتهما من القدرة على منعها من بلوغ أي تأثير لرسم الأحداث وتغيير سير المجريات أو التمكن من احتواء الثورتين وحرفهما عن المبادئ والأهداف التي قامتا من أجل تحقيقها. السبب في اعتقادي هو الانفجار المفاجئ والمتزامن للثورة التونسية ثم مباشرة الثورة المصرية اندلاعها بقوة شعبية لا مثيل لها, وكان عنصر المفاجئة مربكا لتلك الأجهزة فلم يمنحها الوقت المناسب والكافي للتدخل السريع ..
كان القادة السياسيين للدول المعنية ــ بهذا الموضوع ــ ومسئولي أجهزة استخباراتها, في غاية الدهشة من رؤية صورة نادرة لثورات شعبية تنهج النمط السلمي الحضاري في النضال فتزيح دكتاتوريات عتيقة عن عروشها خلال أيام .. ثورة سلاحها قوة النزاهة والحق والكرامة والصدور العارية, دون تزييف لأي من شعاراتها وبقدرة كبيرة على ضبط النفس, مقابل الصورة المحفورة لعقود من الزمن في تلك الذهنية السياسية والأمنية عن شعوب المنطقة, وعن النمط الأصولي في المقاومة التي تؤدي إلى إهراق الدماء.
على مـر التاريخ ومنذُ عصور قديمة حتى اليوم, تقوم الدول والقوى بمد جسوراً بين الأخلاق والسياسة .. وأحياناً أخرى تقوم بإزالة هـذه الجسور, وعلى طول التاريخ كانت السياسة تسعى إلى ما تريد من خلال ذلك الأسلوب, وتحاول قدر ما تستطيع أن تجد مبادئ وقيم أخلاقية لترفعها كشعارات أو لتتخذ منها وسائل وذرائع لما تطلبه أو تقدم عليه أو تصارع الآخرين من أجلة. وكانت خيارات الصدق أو الإدعاء تنجح أحياناً في بلوغ ما تريده وفي أحيان أخرى تؤدي إلى الفشل. ومهما كان موضوع الحق, صادق أو إدعاء, فإن تلك الدول والقوى تحاول دائما أن توفّـق أو تلفّـق حيزاً من مساحته ـــ تقع بين السياسة والأخلاق ـــ لابد من تغطيته والتستر عليه, حتى لا يبدو عملها في نهايته أمام العالم مزيجاً بين المزرعة والسوق والمسلخ.
اليوم, تبدو أساليب التقديم والتمويه التي جرّبتها الدبلوماسية والسياسة الدولية, وقطعت شوطاً بعيداً حتى تفوقت في أداءها .. قد ولى عهدها, كما يبدو الآن إن أساليب التوفيق والتلفيق بين السياسة والأخلاق أصبحت من الماضي, ولم تعـد لازمة في زمن تستطيع فيه السياسة أن تستغني عن الأخلاق بالكامل .. بمثل ما تستطيع بمنطق القوة العسكرية فرض إرادتها بالهيمنة السياسية والسيطرة على موارد العالم الطبيعية .. والاستغناء عن أخذ الأذن من الآخرين لفرض الإرادة والهيمنة والسيطرة بالقوة العسكرية.
وكان قد عرف التاريخ على طول امتداده أنواعاً من القوى الخفية تتحكم في سياسات الدول مع بعضها البعض, لكن النصف الثاني من القرن العشرين شهد تطوراً كيفياً في عمل القوى الخفية التي توجّه وتحكم داخل الأوطان وتحرك خارجها بما هو أكثر من علاقات الدول الطبيعية, والحديث هنا ليس عن أعمال التجسس فتلك ظاهرة قديمة, إنما الحديث عن العمل السري في الظلام بعيدا عن أي مسئولية أو حساب .. حيث اتخذت لنفسها شكلاً مؤسسياً وتعاقدياً في ستينات القرن الماضي, فتأسست وتطورت تلك القوى ومارست نشاطها بتعاون أمريكي ــ عربي ــ بترولي ــ مالي ــ مخابراتي. وفي السبعينات منه اتخذ العمل شكل معاهدة مكتوبة وموقعة, تم وضع أساسها في اجتماع لهذا الغرض عقد في مدينة جدة, ثم جرى إقرار نظامها في اجتماع بعد ذلك في القاهرة, واستطاعت هذه القوى الخفية أن تحقق كثيراً من أغراضها, وأولها تحويل جنوب شبه جزيرة العرب إلى ساحة حرب إقليمية ــ دولية لأكثر من عشر سنوات, ومنها كان المنبع وكانت البداية.
خلال سبعينات القرن الماضي جرى تطوير الفكرة مرّة ثانية للاستفادة منها وبما يتلاءم مع الأوضاع المستجدة في إفريقيا. وعندما تدخل الاتحاد السوفيتي في أفغانستان جرى تطوير الفكرة للمرّة الثالثة لتتناسب مع العمل المقاوم للتدخل السوفيتي هناك, وفي هذه المرّة كانت وكالة المخابرات المركزية الأميركية هي التي تقدمت لقيادة المجهود الرئيسي للنشاط الخفي, وجرى تجنيد وتدريب ألوف من الشباب العربي المسلم ليقوموا بالجهاد ضد الشيوعية التي احتلت أفغانستان. وكانت الأموال تتدفق بلا حساب سواء من الولايات المتحدة ومن الدول البترولية أو الشركات العملاقة العاملة في الشرق الأوسط. كانت البذرة الجنينية الأولى لنشوء هذه القوى الخفية في جنوب شبه جزيرة العرب, ثم كانت الطفولة في أنجولا والصومال, وكان الصبا في أفغانستان, فشبت وكبرت وتوسع نشاطها وأخذ تأثيرها يتغلغل في أرجاء المنطقة, وتحولت إلى شيء أكبر بكثير مما قصد إليه مؤسسوها الأوائل.
أثناء حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران جرى تطويرها للمرّة الرابعة, ومعها دخل الأمر إلى دهاليز البيت الأبيض نفسه وأرتبط نشاطها ببعض رجال السياسة والمخابرات أمثال " ماكفرلين " و " بويندكستر " و " وليم كاسي " و " أوليفر نورث " والرئيس الأميركي نفسه " ريجان " الذي انساق أو تورط على غير إرادته في صفقات سرية بدعوى إطلاق سراح الرهائن الأميركيين في طهران مقابل سلاح لإيران, وغيرها من الفضائح, مثل : " إيران ــ كونترا " و " عراق جيت " و " بنك الاعتماد والتجارة ". وتظهر تفاصيل تلك الفضائح إن القوى الخفية لم تعد تفرّق بين العمل السياسي الخفي وبين النشاط الإجرامي المنظم, لأن الخطوط تشابكت كما إن الأموال اختلطت وامتزجت. حتى كاد عهد الرئيس " ريجان " أن يسقط حينها بفعل ذلك النشاط الذي لم يكن يعرف مـدى حدوده رغم إن البيت الأبيض كان أحد أهم مراكز قيادتها.
ومع عودة المقاتلون المسلمون من أفغانستان ـــ الذين عرفوا بـ" الأفغان العرب " ـــ إلى أوطانهم الأصلية, راحوا يشاركون في عمليات العنف السياسي ضد أنظمة بلدانهم, مما دعا حكومات تلك البلدان أن اتهمت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بمهادنة الجماعات الإسلامية وتركها تعمل على زعزعت أنظمتها الحاكمة وتهديدها بالسقوط, حيث إنها تعرف من الحقائق ما يكفي لتوجيه التهمة كونها شريكة فعلية وأساسية في إنشاء وتطوير تلك القوى الخفية وتساهم في تمويل نشاطها. ثم عمدت الجماعات الإسلامية إلى ضرب الأهداف الغربية وشددت ضرباتها ضد مصالح غربية مختلفة في المنطقة وألحقت بها أضرار بليغة, فانفرط عقد حلف دام عقود من الزمن نتيجة التعارض في مواقف والمصالح بين الأطراف المذكورة, ونظراً لذلك, حصل تغيير شامل على قواعد عملها ونشاطها ووضع إستراتيجية جديدة لمرحلة ما بعد الاختلاف, وجرى تطوير الفكرة للمرة الخامسة بوضع قواعد مواجهة جديدة تلاءم التغيرات المستجدة وتمنح تلك القوى الإمكانات اللازمة ومرونة الحركة والنشاط لمواجهة حلفاء الأمس/أعداء اليوم.
بسبب الانسلاخ الطارئ وخروج الجزء الظاهر من تحالف القوى .. وتغيير قواعد المواجهة مع العدو الجديد المنسلخ عنها ــ الذي لا يعُرف أين وكيف ستتم مواجهته, أو من أين يُراد طرده؟ ــ وأتساع مجال المواجهة ومساحتها, وقيام التحالف الثلاثيني العدواني على العراق واحتلاله زادت حدّة الصراع ودمويته وتعقدت وسائل وأساليب المواجهة أكثر مما كانت عليه في السابق, ومضت السنوات مثقلة بشلالات من الدماء الغزيرة ذهب ضحيتها مئات الآلاف من أرواح الأبرياء على امتداد قارات العالم, وتعتبر حرب الخليج الثانية على العراق المسماة بـ" عاصفة الصحراء " و " صناعة القتل الثقيلة بالجزائر " و " حرب احتلال العراق " من الأعمال التي شاركت فيها تلك القوى بصورة مباشرة وغير مباشرة وهي الأكثر إجراماً والأفدح خسارة.
ومن خلال الشواهد الحاضرة والنتائج المباشرة لأعمال ونشاطات تلك القوى في المنطقة العربية يتضح جلياً مدى الإجرام الذي اقترفته تلك القوى ومن يقف خلفها من أنظمة ودول بحق الشعوب. فما هو الدور الذي يُعد لها في ظل المتغيرات وواقع ثورات الشعوب العربية؟. بعد إن أصبحت الولايات المتحدة الأميركية الضامن المباشر لأمن ممالك وسلطنات وإمارات الخليج ولبعض أنظمة الحكم العربية .. وبعد أن أُعفيت تلك القوى من العقاب أو الملاحقة القانونية .. وعلى ضوء ما جرى ويجري في كلاً من ليبيا واليمن وسوريا والبحرين.