الفساد: وهم المكافحة ومكافحة الوهم/ لمستشار الرئاسة

[فري عدن]

الفساد: وهم المكافحة ومكافحة الوهم

عبدالله عبدالكريم فارس [email protected]

من السذاجة تعليل النفس بعلاج التدهور الحاصل بحقنة تخدير عنوان عبوتها "هيئة مكافحة الفساد"… ومن الحمق الركون على الحاكم أو الإيمان برغبته في تحقيق العدالة الإجتماعية، وتيسير النشاط الإقتصادي، وتحقيق الرفاهية للمواطنين.

في الأصل، الأنظمة الريعية-النهبوية غير معنيّة البتة بالسياسة المثلى لتطوير الإقتصاد. ونُظم الإستلاب الحاكمة هي بالفعل من يضع المعضلات أمام الإقتصاد لمنع تطوّره، لذا نرى شعوب أنظمة العسكرتاريا هزيلة المبنى والمعنى وتعاني تماماً من أزمات مزمنة، بل وتصاب بأعراض شيخوخة مبكّرة، رغم إمتلاكها أسباب النمو والقوة.

ما يميّز الحالة اليمنية، - حيث الفساد فضيلة -، هو إزدواجية الخطاب الذي يصح وصفه بالصلافة والوقاحة... لابأس، قولوا عن ذلك هراء!

حين يتم طرح فقاعات صورية مثل مكافحة فساد، لجان، هدار، مؤتمرات، مهرجانات، حوارات... تلك مجرد تكتيكات وأوهام يجب عدم الوقوع في فخها. ففي واقع الأمر، بتمرير تلك التفقيسات يسعى النظام الى تكريس مصلحة الفئة السلطوية، وإضفاء الشرعية على وصاية الحاكم المطلقة على حياة المجتمع، والتحكم بنشاط الأفراد والهيئات الرسمية والأهلية والخاصة، وغمط حريتهم بما يتوافق مع مصالحه.

لذلك، لا ينبغي أبداً الإستماع لما يقوله، بل البحث عمّا يفعله؟

الثابت أن الفساد يعتبر خيار سياسي وإستراتيجي يعكس رؤية ومصالح شريحة إجتماعية قابضة على السلطة، تستكمِل بإبتكار شيطاني، دكتاتوريتها السياسية والعسكرية بدكتاتورية إقتصادية، ليتأرجح بذلك مبدأ إقتصاد "الزريبة" وفق مصالحها، يساراً إلى أسوأ أشكال الإشتراكية، ويميناً إلى أشد أنواع الرأسمالية تخلفاً.

فالدارج هو أن ريع الثروات الوطنية من أسرار الدولة، ولايحق لأحد الإقتراب منها، وهذا الغموض غرضه الإستحواذ على الثروة والإستئثار بأكبر قدر منها، ومن ثم التحكم بتوزيع الهامش بما يضمن ولاءات مدفوعة الأجر، ثم السيطرة على ماتبقى من قطاعات غير سيادية ووسائل إنتاج - إن وجدت على ندرتها -، والتي يعهد بها إلى مجموعات طفيلية، بغية تقاسم "الكعكة"، تستغل مناصبها لتتحوّل سريعاً إلى شريك في الجريمة، ومنافحاً عنيداً يستميت دفاعاً عن الفساد، - وهيئة مكافحة الفساد ذاتها لاتبعد عن ذلك الهدف كثيرا.

التنمية السلبية، في الواقع، هي سلاح النظام المفضل لفرض إرهاصات إقتصادية ومعيشية على مواطنيه بغية إخراج الشعب من المعادلة السياسية والإقتصادية، لتضمن الفئة الحاكمة ما انتزعت لنفسها من امتيازات، أولها وليس آخرها، الأسلحة المكدسة، مخازن السلع الإستهلاكية، البضائع المستوردة، مزارع، مصانع، منابر إعلامية، أراض مستقطعة بالهكتارات، مواقع جيولوجية، ميزانيات خاصة لاسقف لها، مصادر تمويل مشبوهة، أصول وإستثمارات بالخارج، سيارات فارهة، طائرات - أو ليست اليمنية بملك خاص؟!، قصور باذخة ومساكن سرية تمويهية، مستشفيات خاصة - العرضي نموذجاً - ومدارس اُسرية. - هل تساءل احدكم يوماً ما، أين يدرس حقاً ابناء صفوة العائلة الحاكمة الحضانة والمراحل الأولية والتأهيلية، بعيداً عن بعض الحالات التمثيلية، قبل إبتعاثهم إلى ساند هيرست العسكرية بإنجلترا…!؟

فالطريقة المثلى لمنع السكان عن المطالبة بإصلاحات حقيقية وبديمقراطية تفاعلية وتداول سلمي للسلطة، هي المطالبة بالخبز…!!! عبر جرع مكررة من البطش والإفقار.

لذا، حين يقحم النظام أنفه في شؤون الإقتصاد لايراعي مصالح شعبه، بل يمعن في قهره، وفي إذلال ومحاربة القطاع الخاص، ذلك الجرح النازف، حتى أن أغلب البيوت التجارية المرموقة، وخاصة ذات الإستثمار الجيّد من رؤوس الأموال المحلية وتلك التي آثرت النزوح من نير ثورة الجنوب، قد انقرضت تماماً أو هاجرت ترانزيت ولم يعد لبعضها إلاّ هياكل عضمية.

والدليل أن النظام يحتكر جُل الخدمات الإيرادية، يفرض على مواردها المالية أهدافاً ريعية، وينزع إلى تغيير المعادلات التجارية والاقتصادية آن شاء أعوانه تعزيزاً للقطاع السلطوي المخصص للأقرباء ووكلاء الباطن، كل ذلك في استراتيجية ممنهجة لتحجيم المراكز الإقتصادية المنافسة من البروز، حيث يمطر أدواته التجارية بالتسهيلات والإعفاءات الجمركية والضريبية، وتسخير الموانئ ووسائل نقل الدولة والجيش، وتقديم الأراضي والمخازن، واختلاس الوقود والطاقة والمياه، ناهيك عن الأموال التي يتم إستقطاعها بطرق لولبية ملتوية، فلا يوجد لأدواته التجارية مخاطر خسارة، وهم لايأبهون بصحة وسلامة المستهلك طالما منتجاتهم الرديئة تفرض على المواطن أو الجندي فرضا.

وفي منافسة غير شريفة لصالح قطاعه السلطوي الخاص، لم يترك للقطاع الخاص، المتميّز بقدرته على التنبؤ باتجاهات السوق وسرعة متغيراته، غير مساحات إستثمارية هامشية عالية المخاطر، بدون أية امتيازات ملموسة، بل ويفرض عليه "عتاولة" النظام المشاركة القسرية والأتاوات بدعوى حمايته وإلاّ تعرضت أصوله لبسط اليد والمصادرة.

هدف هذا النظام ليس تنمية الثروة البشرية أو تطوير مؤسسات البلاد لتواكب حاجات وحركة ونمو السكان، بل لأنها بحد ذاتها وفي مجملها، أدوات لتنفيذ سياسته الإجتماعية والإقتصادية، يوزّع الوظائف على الجسيمات الطفيلية التابعة له، بعيداً عن الكفاءة العلمية والنزاهة، لتعتاش من أمعاء هذه المؤسسات، محولاً إياها إلى مرتع خصب للبيروقراطية والفساد المناصر له، ويستخدم طاقتها الإستيعابية لأرجحة نذر يسير من العمالة بين الفاقة والحاجة.

إذا كان السؤال، ما الذي وراء تدهور معيشة السكان والانخفاض المدقع لكل مقومات البقآء إلى هذا الحد المؤلم، والذي وصل الى واقع بحجم موت، أهو قلّة الموارد، من بشرية وطبيعية وزراعية وحيوانية وبحرية وسياحية، أم عرقلة الحاكم للنقلة الحضارية بحجزه الحرية الطبيعية المطلوبة للإرتقاء بالإقتصاد المنتج، أم عدم استجابته للإستحقاقات السياسية والإجتماعية الكاملة والغير منقوصة؟

- أقول أن سبب الإنحطاط الذي نعيشه هو في كل ماسبق، - وقلة الموارد ليست أهمها - تعالوا نحسبها والنماذج عديدة، وعليّ أنا شخصياً يقع عبء الإثبات. فالنهضة بحسب التجارب الإنسانية قوامها بإختصار "العمل والإنتاج"، مما يفضي إلى تراكم كمي ونوعي ومعرفي، وإلى إقتصاد مزدهر وإستقرار إجتماعي وسياسي. - وإن لم تكن النهضة عمل وإنتاج، قولوا لنا، ماذا تكون؟

لدينا معظم الموارد وإمكانيات تفعيلها، وقد تكون متواضعة، لكن رغم تواضعها مُهدَرة تحت حوافرنا، وكل ماهو خارج القطاع السلطوي الخاص معطل وخاضع لمزاج قيادة غير رشيدة منتهى أملها عسكرة الإدارة، ونقش وجه البلاد بالمزيد من المعسكرات ونقاط التفتيش، وتفريخ "متشيعين" لها من أولئك الذين يختزلون كل شيء في فرد ومصلحة حاشيته.

إذا كان الخراب في الرأس فمن أين ستأتي العافية؟ ورعاك الله يا استاذ أحمد بن محمد الآنسي، لقد اغرقتنا في نوبة كوميدية من الضحك المتواصل منذ لبّيت نداء عضوية المؤتمر، فأمتطيت - دون سرج أو خطام - صهوة وهم مكافحة الفساد في بلد صودر فيه كل شيء ولم يعد به أصلاً مايُفسَد. وشكراً للكاتب السعودي تركي الدخيل لإقتباس تلك الحكمة بصدقها المحزن عنواناً لكتابه: جوهرة في يد فحّام...!

* الكاتب، مستشار فني بمكتب مجلس الرئاسة، ورئاسة الوزراء - سابقاً.
المصدر أونلاين
http://www.almasdaronline.com/index....&news_id=10711