الجنوب في ذكرى الإحتلال ... تحت الإحتلال !

[عمار اليافعي]

أحتل البريطانيون عدن في التاسع عشر من فبراير 1839 بعد إدراكهم أهميتها الإستراتيجية لتأمين وجودهم ومصالحهم وخطوط ملاحتهم بين أوروبا والهند البريطانية وبقية أنحاء الشرق.

وقد قاد ذلك الغزو الإستعماري الكابتن هنس الذي يتذكر الجنوبيون إسمه والذريعة الواهية التي سيقت لتبرير إحتلال عدن بالقوة من يد السلطنة العبدلية المستقلة، ومن عدن تم التوسع البريطاني تدريجيا في بقية مناطق الجنوب.

شارك الكابتن هنس في مهمة مسح وإستكشاف الشواطئ الجنوبية العربية، و أبدى إهتماما بجزيرة سقطرى وبالمكلا وموانئ أخرى، إلا أن إهتمامه بعدن كان أكبر، وكان هو من أوائل من لفت نظر المسؤولين البريطانيين الى الأهمية الإستراتيجية لها ومن أجل السيطرة عليها ، وكان هنس قد زار عدن أول مرة عام 1819، ثم زارها مرة أخرى 1835 ثم عاد اليها مفاوضا مراوغا في وقت كان يعمل فيه جاهدا على إقناع قادته لإحتلالها بالقوة ، وكان للكابتن هنس ما أراد ، فهاجم عدن بقوة بحرية وتمكّن من إخضاعها بالقوة رغم البطولات والدفاع المستميت الذي أبداه المدافعون عنها.

كان إحتلال الكابتن هنس لعدن بمثابة الهدية الأولى وفاتحة للتوسع الإستعماري البريطاني في عهد الملكة فيكتوريا، وتولى هنس مسؤولية عدن وأصبح وكيلا سياسيا فيها لمدة خمسة عشر عاما واصل خلالها تقديم خدماته المخلصة للإمبراطورية البريطانية والسعي لتوسيع نفوذها في المناطق الجنوبية الأخرى، ومن البديهي أن يتوقع المرء بأن يحظى من هو مثل الكابتن هنس من بلاده ومن قادته بأكبر قدر من التكريم وان يحوز على أرفع الأوسمة وان يشفع له ما أنجزه لبلاده عن أي خطأ يقع به أو يرتكبه، لكن الكابتن هنس لم يلق عند نهاية خدمته أي تكريم ولم يمنح أوسمة أو نياشين رغم كل ما قدمه للتاج البريطاني ، بل أن ما أختتم به خدمته في عدن وحياته المهنية كان المهانة والسجن، بعد اكتشاف عجز في ميزانية عدن في عام 1852، حيث تم إستدعاءه على إثر ذلك من عدن وجرى التحقيق معه ووجهت له تهم التحايل والإختلاس، و طبق القانون على خادم الإمبراطورية البريطانية المخلص الكابتن هنس دون أي إعتبار أو إستثناء ، وحكم عليه بالبقاء مسجونا حتى يقوم بتسديد العجز المالي المستحق عليه، وقد قضى الكابتن هنس ما تبقى من حياته في السجن ولم يفرج عنه إلا قبل وفاته بأيام معدودة بعد أن تدهورت حالته الصحية.

إن ما تعرض له المستعمر الكابتن هنس من ذِل ومن مصير قاس أختتم به حياته ليدعو الى التأمل في المكانة السامية للقانون لدى هؤلاء المستعمرين والحزم والصرامة التي أبدوها تجاه التجاوز الذي قام به واحد من أبطالهم- الفاتحين- الذين تفانى في خدمة الإمبراطورية البريطانية وقام بدور مشهود في توسيع نفوذها في واحدة من أهم المناطق الإستراتيجية في العالم.

ولا شك أن هذه الواقعة تعيد إلى الذاكرة ما تعرض له الجنوب وما زال من حكام اليمن من حروب وغزوات توسعية ونهب تحت ذريعة الدين حينا ، ولإستعادة أملاك ألأجداد حينا آخر، وتحت ستار "وحدة" معمدة بالدم والطغيان حينا آخر ، ومن بين ما يمكن ذكره هنا هو ما قام به صفي الدين احمد بن الحسن بن القاسم من غزو لعدن ولحج وأبين عام1054 هجرية ما يوافق 1644 ميلادية ، وكان بحوزته صكا من الإمام المتوكل يمنحه كل ما يقع بيده من أموال وغنائم ؛ وعلى الرغم من ان الصفي احمد كان قبل عامين من غزوته تلك قد عاش في عدن مستجيرا بأميرها حينذاك حسين بن عبد القادر اليافعي بعد هروبه من بطش عمه الإمام المؤيد، إلا أنه أبى إلآ أن يعود إلى عدن التي حمته وأكرمته ناهبا غازيا محتلا .

أما اليوم فأن الجنوب يرزح تحت حكم هو أكثر سوءا وبشاعة وطمعا مما مارسه نظام الإمامة في عهد الدولة القاسمية قبل ثلاثة قرون ونصف، ولا يمكن تسميته بأي شيء آخر سوى انه نهج إستعماري إستعبادي لا تزال ثقافة النهب بصكوك، أسوأ من متوكلية، احد أبرز سماته ومكوناته.

من الجلي أن دوائر على أعلى مستوى في السلطة كانت تعتقد بأن إتباع نهج ألإلغاء الذي شمل تدمير النسيج الإجتماعي الجنوبي و تهميش المشاركة والتمثيل السياسي والدفع بالجنوبيين الى قاع الفقر والعوز والإذلال الذي لم يستثني أحدا بما فيه أبناء الجنوب الذين يخدمون في أجهزة السلطة سيكون الضمان الأكيد لمحو الجنوب وهوية الإنتماء والإعتزاز بالنفس المترسخة بقوة بين أبنائه.

ونتيجة المراهنة العمياء لسلطة السابع من يوليو على نجاح ذلك النهج المدمر ولرفضها صوت العقل فأنها قد فرّطت بكل فرص التصحيح ابتداء بالتنصل من إلتزاماتها وتعهداتها الدولية بعد حرب 1994 ، بشأن مواصلة الحوار مع الجنوبيين، مرورا برفض الدعوات المتكررة من أطراف سياسية عديدة لمعالجة آثار الحرب، وللمصالحة الوطنية، ولإصلاح مسار الوحدة ، وغيرها من الدعوات، وانتهاء بإيغالها في القمع وسفك الدماء والإستئثار بالثروة وانغماس في الفساد والإفساد الذي لا حدود له، وهي لا تزال تكابر وترفض الإعتراف والتعاطي المسؤول تجاه ما يطالب به الجنوبيون.

إن الطغيان الذي يتسم به نهج وسلوك السلطة تجاه الجنوبيين وتجاهلها أيضا لمطالب وتظلمات مواطنيها في الشمال قد وضعها في مواجهة مع الجميع وأدى بها للدخول من كارثة إلى أخرى ومن فشل الى آخر، والحقائق المرة التي تواجهها السلطة الآن لن يجدي معها تخدير ولا حل موضعي، بل لقد فات الوقت و اتسع الخرق على الراقع وقد حانت ساعة الحقيقة التي كان المستبدون يظنون أنهم معصومون منها ، وها هي عجلة المطالبة بالتغيير قد بدأت في صنعاء هي الأخرى بالدوران بعد أربع سنوات من إنطلاق الحراك الشعبي السلمي في الجنوب.

إن القوى السياسية المعارضة والنخب الإجتماعية في الشمال مدعوة لأخذ العبرة من الماضي ومما أقترفته سلطة السابع من يوليو بحق شعب الجنوب، وهي مطالبة بتصحيح خطأ صمتها الطويل وتواطؤ بعض اطرافها تجاه ما تعرض له الجنوبيين وأرضهم من ممارسات لا يرتضيها ولا يقبل بها من يؤمن حقا بدين وبصلات الإخوة وبقيم الإنسانية، كما أن عليهم إدراك أن الجنوب وشعبه لن يقبل بأن يكون أقل من طرف متساو ومتكافئ ، وبأن الجنوبيين هم المعنيين وحدهم بتحديد مستقبلهم ، وبالتالي فأن على هذه القوى السياسية نبذ المقولات البليدة كعودة الفرع الى الأصل التي ليس لها في القاموس الجنوبي ولا بقاموس العصر أي مكان ، والتخلي عن مفاهيم الإرث التوسعي تجاه الجنوب وغيرها من الشعارات والسلوكيات التي أدت الى الكارثة الشاملة التي أصبح أبناء الشمال الآن جزء من ضحاياها بعد أن صمتوا طويلا وظنوا أن الجنوبيين وحدهم من سيدفع ثمنها .

إن الجنوبيين وهم يحيون ذكرى الإحتلال البريطاني لبلادهم فأنهم يواجهون واقعا إستعماريا إستعباديا آخر هو أشد تسلطا وأكثر ظلما وقمعا وتخلفا ، ولعل الكثيرين من أبناء الجنوب يشعرون الآن بشيء من الإشفاق على الكابتن هنس لما آل إليه مصيره بعدما رأوا النهب الشامل والمروّع لأرضهم ومواردهم ومقدراتهم وسفك دمائهم وتقييد حرياتهم من قبل مقربين ومتنفذين شماليين لم يساءل أحد منهم ولم يقدّم أحدا منهم للمحاكمة بل أنهم محاطون بكل صور التكريم ويحظون بالرعاية التامة من القائم بأمر ظلم البلاد.

لا نعلم هل فهم الحاكم ما يطالب به الجنوبيون أم أنه لم يفهم بعد ؟

دوام الحال من المحال وساعة الخلاص قادمة بإذن الله.