سفينة الجنوب وعواصف التغيير

[أبوزيد الضالعي]

سفينة الجنوب وعواصف التغيير
أبوزيد الضالعي

تتوالى الأنباء سراعاً هذه الأيام فلا نكاد نسمع خبرا حتى يأتينا التالي في ظرف ثوان مما يجعل المشاهد عاجزا عن التنبؤ أو حتى التعليق على ما يجري. وقد ظهر ذلك جلياً منذ قيام ثورة تونس المجيدة وتتابع أحداثها بشكل دراماتيكي أثمر في النهاية إلى نتائج أذهلت أبناء تونس الثائرين أنفسهم ناهيك عن النظام البائد والذي لم يملك سوى الهروب لينجو من غضب الشعب التونسي والذي لاقى تعاطف العالم أجمع ووقوفه إجلالاً واحتراماً.

وها نحن هذه الأيام نرى نفس السيناريو يتكرر في أرض الكنانة والتي ظلت ترزح تحت نير دكتاتور من العيار الثقيل حكم أم الدنيا ما يقارب الثلاثين عاماً متسلحاً بكل أدوات الديكتاتورية من قمع وإرهاب وتسلط وظلم وقتل وفساد أكل الأخضر واليابس ولم يبقي للملايين سوى فتات حيتان حزبه الحاكم. صبر المصريون كثيراً وعانوا ما لم يعانه شعب غيرهم من نظام لمن لا يعلم كان يتبجح بتصديره لخبراء في التعذيب بل حتى ابتكاره أساليب جديدة لم يسبقها إليه نظام قبله، وليس ذلك فقط بل تفننه في تزوير الانتخابات والتلاعب بأصوات الناس مثله كمثل باقي الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي.
وفي ذروة سيطرته وقمة صلفه دهى هذا النظام ما لم يكن في الحسبان، فأكثر المتفائلين بالشعب المصري لم يتوقع أن يجرؤ أبناء مصر على الخروج ضد جلاديهم بالآلاف بل الملايين رغم ما قامت به الأجهزة الأمنية القمعية من مجازر في حقهم أمام مرأى ومشهد شعوب العالم. وهاهو اليوم عرش الفرعون المصري ينهار ليصبح آية لمن سيأتي من بعده وكأن التاريخ الفرعوني يعيد نفسه.

جل ما يهمني في الأمر كجنوبي هو تبعات انهيار النظام المصري على المنطقة وبالأخص النظام اليمني الهش والذي قد بدأ يتداعى فعلاً منذ فترة طويلة جدا لولا انعدام الروح الثورية عند أبناء اليمن الشمالي والذين كانوا ومازالوا دائما- شعباً ومعارضة- داعمين لهذا النظام البائس بسبب ترابط مصالحهم واشتراكهم في العداء للجنوبيين وقضيتهم العادلة. فمسألة الجنوب بالنسبة لهم لا تعدوا عن كونها غنيمة قاموا بتقاسمها، وورقة تغازل بها المعارضة الحزب الحاكم مثلها مثل ورقة القاعدة التي يبتز بها الرئيس اليمني الدول الخليجية والغربية.

والرئيس اليمني كعادته يصاب بالرعب والحمى عند كل نازلة تصيب أياً من أصدقائه أو جيرانه. فيتصرف بشكل هستيري ويتخذ قرارات قد تبدوا للوهلة الأولى أنها تنازلات قام بها لمصلحة الوطن وهي لا تعدوا عن كونها محاولات منه لسد أي ثغرة قد يؤتى منها نظامه، ولقتل أي بادرة لمعارضة حقيقية قد تهدد عرشه. ولعلنا كجنوبيين مازلنا نتذكر قيام الرئيس اليمني بعد انهيار نظام صدام حسين بالتنسيق مع بعض الدول الخليجية للجم المعارضة بالخارج. حتى قام هو بنفسه بالسفر إلى أبوظبي للقاء القادة الجنوبيين النازحين وإقناعهم بالعودة والضغط عليهم من قبل الدول المضيفة وبمساعدة وتنسيق من أحمد عبدالله المجيدي صاحب الأدوار المشبوهة. أعقبها أيضاً بعفو رئاسي "كريم" بالعفو عن قائمة الـ 16 وليس إسقاط الأحكام عنهم! ولكن السحر في النهاية انقلب على الساحر فتحولت جحافل الكوادر الجنوبية العائدة إلى اليمن إلى عبء ثقيل بعد أن كافأها الرئيس بالتسريح والتهميش. وقد كانت هذه هي البذرة الأولى للحراك الجنوبي بشكله المعروف الآن والممتد من معاناة الجنوبيين منذ فترة ما بعد حرب صيف 94.

لا أعلم لماذا يتمالكني التشاؤم إزاء المعارضة اليمنية بكل مكوناتها فهم لا يخفون استعدادهم لدعم سلطة الرئيس اليمني في سبيل إبقاء الجنوب تحت السيطرة، ولا أحد منهم يريد فقدان نصيبه الذي حصل عليه من الكعكة الجنوبية. فعقلية المشترك التي يديرها حميد الأحمر هي عقلية تجارية بامتياز تؤمن بسياسة المصلحة الذاتية ولو على حساب البسطاء من المواطنين. وما عنترياتهم وشطحاتهم التي يتحفوننا بها بين الفينة والأخرى إلا لعبة مصالح داخلية بخلفية صراعات قبلية لا تؤمن لا بالحرية ولا بثقافة التغيير "ففاقد الشيء لا يعطيه". حميد الأحمر يتحدث عن الفساد وهو أحد المفسدين في الأرض، ويتشدق بحقوق الجنوبيين وهو وأبوه من قبله من عاثوا في أرضنا الفساد ونهبوها من أقصاها إلى أقصاها. وكلنا يعلم أن هذا الرجل يملك من النفوذ ما يستطيع به أن يزلزل الأرض تحت أقدام طاغية اليمن ونظامه، ولكن العلاقات القبلية والتجارية والمصالح الضيقة تمنعه من ذلك. أما الأمر الآخر الذي يحرك حميد وإخوته حسب اعتقادي هو السلطات السعودية التي تخشى من حصول انهيار في الشمال وقيام دولة شيعية موالية لإيران. ولذلك فإن ارتباط بعض قادة الجنوب كذلك بالأجندات السعودية أو أي أجندات أخرى سوف يضعهم هم كذلك في خندق واحد مع حميد وعلي عبدالله صالح وسيفقدهم كثيرا من المصداقية التي لا زالوا يحظون بها عند الشعب الجنوبي.

سوف تبقى سفينة الجنوب تمخر عباب البحر بعشوائية وخلافات مدمرة، وكل هذا بسبب انعدام القيادة الموحدة وفقدان التنظيم، وتربص أعداء الداخل والخارج وتكالبهم على مشروع الحرية الجنوبي والذي لا يوافق مصالحهم. ولكن هذا لن يثني أبناء هذا الشعب عن الإصرار ومواصلة النضال وضرب أروع الأمثلة في التضحية والصمود وسلمية الفعاليات في عالم متوحش اختلطت فيه السياسة والدين بالمصالح المادية. غابت القيادة السياسية لدولة الجنوب التي كانت تعج بسياسيين كبار جل ما قدموه إلى يومنا هذا مجموعة بيانات إلكترونية لم تقدم قضيتنا خطوة واحدة إلى الأمام. ليعودوا بعدها إلى سباتهم وكأن الزمن أبى إلا أن يعيشوا في ثلاجته فلا يستيقظون إلا عندما تتفجر بوادر الثورات ليجدوا لهم موطئ قدم في سجل التاريخ الذي مزقوه بأيديهم.