" تاج " تاجٌ فوق رؤوسنا وآخرون في حدق العيون

[أبو عامر اليافعي]

" تاج " تاجٌ فوق رؤوسنا وآخرون في حدق العيون
في يوم كان من أسوأ أيام الجنوب طوال تاريخه الممتد لآلاف السنين.. يوما توارت فيه الابتسامة والأمل والخير والإحساس بالمكانة.. تحول فيه الجنوبيون إلى التيه والضياع انه يوم السابع من يوليو 1994م وبرغم صيفه الملتهب إلا أن شمسه توارت وخيم عليه جوا حزين .. وحسرة على ما مضى .. وحزنا فيما جرى .. وخوفا فضيعا فيما سيأتي .
لم اشعر بالضياع في حياتي كمثل ذلك اليوم وأنا أرى الجنوبيين في سباق على الهروب لا يكاد احدهم ليستطع أن يلتفت إلى خلفه ليرى ما ترك .. وآخرون في بيوتهم واجلون كمن ينتظر الموت قتلا أو الهلاك جوعا أو الانتحار كمدا وقهرا .
في ذلك اليوم المشئوم شاهدت وجوها غريبة وقطعان من البشر كيأجوج ومأجوج، يدمرون كل شيء، وينهبون أي شيء .. بجشع لا مثيل له .. وبطمع يخالجه حقدا مقيتا بشعا .. في ذلك اليوم أحسست بأننا مقبلون على الانحدار شئنا أم أبينا وان شعبا كان قائما بدأت تدب فيه - قسرا - النهاية والإبادة .
لم اشعر بحياتي بضياع كمثل ذلك اليوم وفيه تمر أمام عيني وفي تلك اللحظة صورا لدولة ومدينة وعاصمة وكيان ..تمر تلك المشاهد مرورا سريعا كأنها تخشى البقاء وتطلب النجاة في الهروب وكأنها تود أن تختفي إلى الأبد؟ لان ما هو سيئا قد أتى وما كان جميلا قد رحل. وحلت مكانها مشاهد أخرى هائجة مقبلة صورا من كرامة تُهدر ودماء تُسيل ودموع تُسفح وليل اسود حالك السواد في جوٍ مشحونٍ ومزدحم الكآبة والحزن الشديد ..ولم يبق في ذاكرتي الضعيفة الموهنة شيء جميلا إلا صور شهداء من سقطوا في جبهات القتال .. هم وحدهم الرائعون وهم وحدهم المنتصرون وهو وحدهم من ماتوا مرتاحو الضمير .
ومرت السنون.. ثقيلة على الصدور مؤلمة في الأفئدة.. والضياع هو نفس الضياع والسواد نفس السواد حتى وأن كنا نشعر بومضات بعيدة من نجوم تلمع بوهن ثم تختفي كأن لم تكن.
يا الله ! أما لهذا أن ينتهي ؟ أما من بارق يشع فينا الأمل ؟ أما من نار ونور يطمس هذه الكآبة ؟ أما من مطر يغسل فينا غبار الهوان ؟ أما من جنوبا سيأتي؟
قبل سنوات معدودة كنت ابحث عن أي شيء له هواء الجنوب ورائحة الجنوب وطعم الجنوب؟؟
نعم . من بين القبور ومن تحت الرماد ومن وسط العتمة لاح "تاج" مرصع بأكاليل الغار .. وعنفوان الأشتر النخعي .. وبرائحة البخور العدني والفل اللحجي .. ونكهة البن اليافعي .. وبإيقاع الدان والفن الحضرمي .. وبمسحة وجه شبواني عميق الأصالة والجذور له سمات أبينية صبيحية أمهرية كتناسخ الأرواح في عشق صوفي ، له كرامات تطال الروابي والجبال في ردفان وجحاف الشامخات.
برغم اللغط والضوضاء وازدحام الذاهبون والآتون.. كانت الصرخة من تاج لها نغمة متميزة ودويا زاخرا .. كان صوتا يأتي من أعماق أعماق المستحيل .. وله في الأنفس وقع جميل لأنه أتى نقيا صادقا يحمل بذراعيه الدليل .. ببقية من كرامة ورفعة وسمو نبيل .
من تاج ومن نجوم لامعة أخرى بدأت الحكاية .. حكاية شعب ليس في قاموسه الذل والخضوع والمهانة .. شعب لم يمت ولن يموت وكيف يموت من ينجب أبطالها وكرمائها ومنتهى البسالة.
شكرا لتاج الجنوب شكرا باعوم شكرا مسدوس شكرا الغريب شكرا بن فريد شكرا الشنفره شكرا شيخان اليافعي شكرا باشرا حيل شكرا لكل رمزا جنوبيا ظل مشعلا ينير عتمة الدروب للجموع في الجنوب.