نجوم الإذاعة (9/58)
كانت إذاعة عدن عام 1971 حلبة فريدة من نوعها، تجري فيها مباريات الملاكمات الإدارية والوظيفية فيها بقبضات حديدية مغطاة بقفازات حريرية، وكانت صورة للوضع في البلد كما كان وكما هو كائن وكما سيكون، فلكل مرحلة من هذه المراحل ممثلوها الذين سيرحلون أو الذين سيتشبثون بصواري وأعمدة السفينة المترجرجة فوق الأمواج، إضافة إلى أولئك الذين يكمنون في الأروقة والمنعطفات والزوايا المظلمة في انتظار البلاغ رقم (1) ليسيطروا بعدها على الأجهزة والميكرفونات والملفات.
وفيما كانت حالة الأجهزة تتدهور وتتداعى لضعف الصيانة وانتهاء الصلاحية، كانت الطموحات تستعر وتشتد لدى البعض متزامنة مع عمق الإحباط وقتامة الاستشراف لدى البعض الآخر.
(علوي السقاف) الذي كان والده قاضياً مشهوراً في دبي عزل نفسه، وقد نذر ألا يكلم الدهر إنسيا رغم أنه كادر مخضرم مشهود له بالكفاءة فنياً وتحريرياً وإدارياً، وكنت كلما حدثته عن أحوال ركاب السفينة وأهوال تقلبات البحر المنذر لا يزيد عن القول: "لا أذود الطير عن شجرٍ… قد بلوت المرّ من ثمره".
(خالد محيرز) الإداري الممتاز الجاهز على الدوام للعمل الصبور، الدؤوب على مدار الساعة، هرب من المعمعة إلى مشروع روسي لتقوية الإرسال في منطقة (الحسوة) وعندما تحدثه يشير إليك بحكمة القرود الثلاثة: (لا أرى، لا أسمع، لا أتكم) وطبعاً دون أن يتكلّم.
(جمال الخطيب) المجابه المعتمر بنفسه، انتهى قتيلاً، وزميله عبدالرحمن بلجون، الرقيق، الخفيف الظل، انتهى كذلك قتيلاً…وهكذا…وهكذا… ومن لم يمت بالسيف مات بغيره… تعددت الأسباب والموت واحد.
ضابطات الصوت اللواتي صرفت عليهم الإذاعة (دم قلبها) قررن أن يكن مذيعات، فكان لهن ما أردن، فتنحّت المذيعات المعتمدات لضابطات الصوت، وجاءت كوادر جديدة لضبط الصوت تتدرب على الأجهزة العتيقة.
في هذا الجو التحقت بالإذاعة ولم أكن من أهل الثقة والحكم فأسند ظهري إلى جدارٍ رقيق، كما أنني لم أكن من أهل الخبرة، فأتكئ إلى علمٍ عريق، حيا الله… مجرّد خريج جديد لا يودّي ولا يجيب.
لذلك كان من حق المذيعة النجمة (القرفانه) فوزية غانم أن تقفز في وجهي محذرة ومنذرة، كما أشرت بالأمس، وكان من حق الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة أن يضحك من (وقعتي) حتى يستلقي على قفاه. وعلى كل حال، فرب ضارة نافعة، فقد أصبحنا أصدقاء، وحين دعتنا فوزية ذات يوم للغداء أنا والجرادة في منزلها، لاحظت سطوتها المخيفة في البيت، حتى لتشعر أن الفناجين والصحون والسكاكين ترتعد من الخوف، وهذه صفة غالبة في نساء عدن، لذلك عندما قال لي صديقي الجزائري (بده مكي) الموظف في وزارة الإعلام في أبوظبي أن هناك مثلاً جزائرياً يقول: "من لم يؤدبه الزمن، أدّبته نساء اليمن" صححت له بالقول: "نساء عدن" وقد قفزت إلى ذهني (عمتي فوزية) التي أصبحت تتقبل الكنية بصدر رحب وقلب مفتوح.
__________________
[IMG]file:///C:/Users/dell/Downloads/562735_452337594800990_1195827186_n.jpg[/IMG]
|