الأزمة في الداخل
- 1 -
... والسياسة الخارجية ليست في الواقع كل ما نختلف عليه مع (( الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل )) رغم أن من العسير الفصل في أحوال دولة اليوم . بين الوجهة العقائدية للدولة .. وبين سيآستهآ الخارجية ..
إنه اختلاف بين عقيدة .. وعقيدة .. وكل الأمور بعد ذلك تأخذ نفس المسارات التي تتفرغ عن (( الإختلآف الجذري )) إلى تفصيلات هامشية ..
إنه اختلاف بين (( الإسلام كدين مشتمل على حدود تصور كآملة شاملة للحياة .. والأحياء .. وكخطة ومنهاج يرقى بهمآ الإنسان .. ويفلح ويتحرر من العبودية إلا الله .. وبين العقيدة الماركسية )) تطرح نفسها (( بالعنف الثوري )) .. وبالإرهاب المنظم كبديل للإسلام في مجتمع مسلم .
هذآ هو جوهر الإختلآف .. ونقطة إنطلآقه .. وهو يتصاعد من هنآ .. ويتفرع في مسارات متعددة . ذلك أن السياسة عمليا ونظريا أداة من أدوات التعبير عن عقيدة الدولة .. وبالتالي فإنها - أي السياسة الخارجية - تعتبر من أهم (( الوسائط الناقلة )) للعقيدة .. والحاملة لتأثيراتها .. وملامحها إلى العالم .
وإذا كانت (( الماركسية )) هي (( العقيدة )) مثلا .. فأن خدمة (( الفضائل والمثل العليا الماركسية )) .. تصبح في المقام الأول .. من سلوك (( الدولة )) في الخارج .. وعلاقاتها بالمجتمع الذي تحكمه في الداخل .. ولهذا فلا يجب أن يكون مدعاة للدهشة والاستغراب أن يكون شعب كوريا .. أقرب وأحب إلى دولة الجبهة القومية من شعب الأردن .. مثلا .. وماوتسي تونغ .. أقرب إلى قلوبهم . من الملك فيصل .. ذلك حكم العقيدة .. فالضد لا يحب ضده ..
وصحيح أن هذا ليس رأينا نحن شعب الجنوب العربي .. ولكنه رأي ولاة الأمر فينا .. وهذا بالذات ما يفقدهم حق الطاعة علينآ .. وما يخلع عنا موجبات البيعة التي لم تتم .. ولم يطلبوها هم قط .. بل أخضعونا بالدم .. والحديد .. ولا يزالون يفعلون ..!
إن حكام الجنوب العربي لا يناقضون أنفسهم قط عندما يجاهرون بأن العاجل والملح في نظرهم هو تصفية (( الإمبريالية والرجعية العربية )) .. وليس كما نريد نحن (( تصفية الفقر والتخلف في الجنوب العربي .. ووضع قواعد سليمة لمجتمع مسلم مزدهر . يستطيع عندما يصل إلى مرحلة معينة من رقيه أن يكون مؤثرا وفعالا بشكل أكبر .. وبصورة أدق .. في النشاط الإنساني كله .. ))
- 2 -
إن الشيوعيين في الجنوب العربي .. بحكم خروجهم عن الإسلام - وهم يجتهدون في الإعلان عن هذا الاتجاه وتأكيده - واستبداله بالعقيدة (( الماركسية )) .. يستجيبون طوعا وباندفاع للعمل مع أخوتهم في المعتقد .. ويقتربون منهم بمقدار ما يبتعدون عن سوآهم .. كما أنهم يزدادون تصلبا وعنتا في محاربة كل اتجاه آخر على أرض الجنوب العربي .. طاوين الاتجاهات العربية المسلمة هناك تحت مفهوم واحد هو (( الرجعية العميلة )) .. وهم يعملون حق العلم بأن المناضل العربي المسلم لا يمكن أن يكون عميلا لأحد .. لأنه بطبعه .. وبحكم تكوينه الخلقي يحارب (( ليكون الدين كله لله )) .. ولتتحقق للعرب وحدتهم .. وترفع عزيزة رايتهم .. وهو ما لا يتفق عليه أية دولة إستعمآرية أو شيوعية .. بدليل أن بريطانيا استمرت تحارب رابطة الجنوب العربي إلى الساعات الأخيرة من وجودها في الجنوب .. ومن ثم سلمت الراية لمن هي واثقة بأنه سيتابع هذه الحرب بقسوة أشد .. وبثبات أكبر ... لماذا ؟
لأن بريطانيا تعلم أنه لو قامت دولة في الجنوب العربي متفاهمة مع السعودية . فإنهما ستشكلان مجتمعتين قوة ضاربة .. تحول بين كل الطامعين في جزيرة العرب والوصول إلى ما يريدون .. من سيطرة ومغانم لا يجهل أمرها أحد .
وبما أن (( سياسة التوازن )) تقتضي تمكين اختلافات من افتراس طاقات أبناء الجزيرة العربية .. وإعاقة وحدتهم .. والتأثير بالضرورة على الدور القيادي الذي أخذت السعودية تلعبه في السياسة العربية و الإسلامية وخنق روح التضامن الإسلامي في المهد .. فأن من الضروري خلق دولة شيوعية في الجنوب تناطح ولو سياسيا ودعويا الدولة الإسلامية في الشمال .. وفي النهاية إجبارها على صرف جانب من جهدها لاتقاء الشر .. والوقاية من الفتنة .. (( لئلا يضع المسلمون في الجزيرة السيف على أعناقهم فلا يرفعه الله أبدآ )) ..
- 3 -
لقد رفضت رابطة الجنوب العربي أن تقوم بنفس الدور الذي قامت به (( الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل )) .. مقابل إستلآم السلطة من بريطآنيآ .. وأصرت على ضرورة قيام مؤسسات ديموقرآطية ينتخبها الشعب - طبقا لتوصيات الأمم المتحدة - تنبثق عنها حكومة مركزية لعموم الجنوب تتولى الحكم .
واعتبرت الرابطة أن هذا هو السبيل الوحيد الذي يؤمن السلامة .. والاستقرار لدولة الإستقلآل .. ويجنب الشعب التطاحن الذي ذاق مرارته بعد ذلك .
ذلك أن الرابطة لم ترد قط أن تكون (( جهاز الإكراه )) الذي يحكم الجنوب العربي .. حتى وإن كان هذا الإكراه إلى الخير ..
وما كنا نظن أن أحدا آخر سيهرع إلى التهالك على العرض البريطاني .. وسيوافق على رفع رايته على الدبابات البريطانية التي دمرت الشيخ عثمان .. واقتحمت الصعيد وحبان .
لقد كنا نظن بالآخرين ما نظن بأنفسنا من (( الولاء )) لشعب الجنوب العربي .. والرغبة المتجردة في عزته وكرامته .. وحقن دمائه .. غير أن الشيوعيين حتى وإن كانوا عربا لا تعوقهم الوساوس الخلقية أثناء الصعود إلى السلطة .. كما لا يعوزهم إختلآق (( الذرائع والمسوغات )) التي تبيح لهم إهرآق الدماء .. وتنظيم حملات التصفية .. في المجتمعات التي يصلون اليهآ بالإرهاب .. والتآمر على مراكز القوة .. والتأثير فيها .
إن استعذاب القتل .. وتغذية الضغائن .. والمثابرة على تنميتها والحث المستمر على حتمية التناقضات في المجتمع الواحد .. والدعوة إلى تصفية هذه التناقضات بالعنف الثوري ..!
هذه الأمور آمنت بهآ (( الماركسية )) دون كآفة المعتقدات الشاذة التي عرفتها الإنسانية طوال أربعة ألاف عام .. وهي الحقبة الزمنية التي يمكن متابعة وقآئعهآ في كتب التأريخ .. وعلم الحضارة .
كما أن الحقد شيء لا تعرفه العقائد السمحاء .. ولكنه - أي الحقد - من أهم العوامل المحركة في صلب (( الماركسية )) :
وربما كان هذا يعود إلى المعاناة المرة التي كابدها كارل ماركس والحرمان المتصل الذي زامله في المتحف البريطاني بعد نفيه من ألمانيا .. وابتعاده عن المجال الذي كآن يستطيع أن يحقق فيه نجاحا سويا .. يحمله على الرضا والقناعة .. ويجعله أكثر تفاؤلا ..!
وربما كان أصله (( اليهودي )) له علاقة بهذا الضغن العجيب الذي يستشعره نحو الإنسانية .. إذ من المعلوم أن اليهود ذاقوا إمتهآنآ واضطهادا لا مثيل لهمآ على أيدي المسيحيين الاتقيآء في العصور الوسطى .. ولم تتحسن النظرة إليهم في المآئتي سنة الأخيرة .. عندما أشتد الإتجآه إلى (( المسآوآة )) في أوربا .. وضعف سلطان الدين المسيحي في النفوس .. واتجهت الأفكار وجهة
(( علمانية )) .. ولليهود بلا جدال دور عظيم في إحداث هذا التحول الذي جاء لمصلحتهم .. وانتهى بإنتصآره عصر إمتهآنهم وإحتقآرهم - بإستثنآء الردة المضادة لهم - التي حدثت في عهد (( الرايخ الألماني الثالث )) .
وربما أن الأمرين معا .. أصل ماركس اليهودي .. وظروف حياته الشخصية صنعت منه ذلك المتنبي الأخرق المعادي لله .. وللإنسانية .
ومهما يكن من أمر فإن آثار هذه الديانة العجيبة تنتقل إلى تابعيه بشكل أشد وطأة .. وأكثر وحشية .. وهي تنفذ بجسارة في مجتمعات لا يجرؤ عليهآ حتى الغزاة ، دعك من أن يرعاها واحد أو عدة أحاد من أبناء هذه المجتمعات ..!
- 4 -
وإني وقد تضلعت من (( الماركسية )) بمقدار ما تضلع به أتباعها .. وعرفت من أشكال تطبيقآتهآ في العالم بمقدار ما يعرف أنبه رجالها .. لأعلم الآن ما يتوجب على شعب الجنوب العربي أن يعانيه من ألآم .. وتوتر .. وإرهاق .. وقلق .. ليس في إحتمآل دعآتهآ .. والسكوت عنهم وهم يركبون ظهره .. وإنما ما يعانيه من حثه بكافة الوسائل - قلت كآفة الوسائل - على الهتاف بصوت مسموع .. ونبرة واضحة لقيادة التغيير الثوري ..
المأساة أن كل مواطن في دولة الثورة الماركسية يصبح مطالبا باكتساب فورا .. في أفعاله .. وأقواله .. وحفظ شعاراتها .. وترديدها في الشارع .. في المقهى .. في البيت .. وهو مطالب كذلك بنبذ قيمه ومواريثه .. ومعتقده القديم .. والإسهام في الحملة ضده ..
وبما أن المرء لا يغير عاداته .. وقيمه الملكية والخلقية والدينية بين عشية وضحاها .. فأن آلاف الناس في الجنوب العربي سيتعرضون .. للاضطهاد .. والحرمان .. والتصفية المريرة .. تحت ذرائع معاداة الثورة .. أو العمل ضدها .. أو عدم التجاوب معها .. الخ ..
وهؤلاء .. أو جلهم ليسوا أعداء نشطين .. بل ليسوا أعداء بتاتا إنهم فقط يريدون أن يتركوا وشأنهم تجنبا للمشكلات وضنا بأنفسهم على المتاعب .. ولكن دولة الثورة (( الماركسية )) لا تترك أحدا .. وشأنه .. فذلك تساهل .. لا يستحقه الأعداء حتى ولو كانوا أعداء من الخاملين .. لا ضرر منهم .. ولا نفع فيهم .
يقول فلاسفتهم ..
(( القيام بثورة اشتراكية يعني بإيجاز تغيير العلاقات الاجتماعية الموجودة .. وخلق علاقات اجتماعية ثورية )) .
(( المكلآ )) جريدة الشرارة العدد الخامس تأريخ 22-2-1968 م .
وبما أن هذا التغيير - وخصوصا في المجتمع المسلم - لن يحدث إلا بحرب منظمة ضد فكرة الإسلام ذاتها .. بإعتبآرهآ المسئولة عن خلق العلاقات الاجتماعية القديمة .. وبتقنين إتجآه الأفكار لمصلحة التغيير الثوري .. فأن الضرورة ستقتضي اللجوء إلى مقادير متزايدة من العنف لإحداث هذا التغيير في العلآقآت الإجتمآعية .. وجعلها في المستوى المطلوب الذي يستطيع التجاوب مع
(( الماركسية )) .. والتشكل حسب مقتضياتها ..
- 5 -
إن شعب الجنوب العربي يتعرض اليوم لإمتحآن عسير .. امتحان دينه .. امتحان في أخلاقه .. إمتحآن في قيمه ومواريثه .. وتقاليده .. وشيمه .. إمتحآن في صبره .. وشجاعته .
ومستقبله كله رهن بنتائج هذا الامتحان . فأن خرج منه ظافرا وأستطاع أن يهب عن بكرة أبيه كما هو المأمول . وأجتث هذا النبت الكريه الذي تغذيه
(( الماركسية )) الشيوعية وتطلب له النمو على أرضه العربية المسلمة ..
فقد تستوي على الجودي قريبا ويقال بعدا للقوم الكافرين .
وإن تمكنت جذور هذا الشر في رحاب .. الاستسلام والاستكانة .. والذل ..
(( فأمر الله بلغ تشقى به الأشقياء )) .
وإني لأظنها الحرب (( يبلغ من ضخامتها أن المنتصر فيها يخر مغشيا عليه فوق جثمان ضحيته )) ..
عبدا لله الجابري
من كتاب الجنوب العربي في سنوات الشدة
( يتبع )