الشمال ليس بشقيق!
د. سالم سيف الجابري
تستميت الكثير من الأقلام وتتمسك الكثير من الأصوات بالكتابة والتهجي من سياسيي ومثقفي وإعلاميي الشمال وتابعيهم في الجنوب بالإدعاء والقول بالعمل على إنصاف الجنوبيين وحل قضيتهم حلاً عادلاً، مع تغييب مضمون هذا الحل العادل الذي يتشدقون به ليل نهار، ولم يلمس الشعب في الجنوب الذي وقعت عليه المظالم وعاثت فيه كل القوى السياسية فساداً وإفسادا ونالت ثراء على حساب ثروته وحق أجياله القادمة في الأرض والثروة، وقبل هذه وتلك العيش بكرامة وشمم وإباء في كل شبر من أرض الجنوب وهو ما استشعر فقده بعد حرب صيف 1994م، ومتالاها من سنوات عجاف أكلت الأخضر واليابس فلم يلمس إلا موبقات العصر في الاقصاء والنهب والتشويه والهيمنة.
إن كل هذه (الروزنامة) من القوى التقليدية التي تدعي اليوم التحديث وتتباكى على المدنية وتحمل في أدبياتها الشعارات الوطنية والقومية والإنسانية جميعها سقطت رهاناتها أمام ما تعرض له الجنوب من نهب وسلب وإقصاء وتهميش وتشويه وتدمير لكل مقومات الدولة العصرية وسيادة النظام والقانون والأمن والأمان الذي أنعمت به بقاعه وشعابه وسهوله ووديانه ومدنه لفترة طويلة امتدت من زمن الاستقلال حتى عشية عام الوحدة المشئومة، وكان المجتمع في الجنوب قد وجد في دولة الاستقلال كثيراً من شروط الحياة وتوفرها حتى وإن ظل رافضاً بصمت لبعض التوجهات السياسية التي تقاذفتها تيارات ما بعد الاستقلال وتسليم بريطانيا استقلال الجنوب لثوار الجبهة القومية وما لحقها من صراعات دموية أنهكت جسد الدولة حتى وصل إلى هاوية السقوط ولقمة صائغة في فم القادمين من شمال الشمال فكان أن نسي الثوار القوميون شعبهم الجنوبي الذي صمد في زمن توزيع معدلات الغذاء بالبطاقة وتموين الأسر عبر طوابير التعاونيات المنتشرة في أرجاء الجنوب، هذا الشعب الذي كانت قيادته السياسية تبشره بالرخاء والقضاء على الرجعية في الشمال وتعميم التجربة على الجزيرة والخليج فكان أن ربط البطون وساهم بالاستقطاع من مرتباته لدعم حركات التحرر الوطني وهلل لقيادته ورفعها في الرؤوس وأطلق عليها الألقاب، كيف لا وهي قياداته التاريخية التي ناضلت ضد المستعمر البريطاني كما كتب في تاريخ الثورة في الجنوب وجاء على ألسنتهم وسيرهم المنشورة، هذا الشعب الجنوبي الذي تاق إلى حريته وكان مستعداً للتضحيات بما هو أغلى مما قدم وجد نفسه اليوم في مأزق خطير ينذر بنهاية مأساوية لكل نضالاته، ولم يزل صابراً حتى وهو يرى بعضاً من هذه القيادات والزعامات (التاريخية) يراهن على ألاعيب السياسة في قضيته الجنوبية التي خرج بها إلى الشارع ودفع ثمن هذا الخروج من خيرة شبابه الذين استشهدوا في ساحات المقاومة السلمية من جميع محافظات الجنوب لتروي دماؤهم شجرة الحرية وأخوتهم في النضال الذي سقطوا جرحى لآلة الحرب القمعية الشمالية ونالهم من القهر والتنكيل ما نالهم ليودعوا في السجون وأجسادهم تقطر دماً وجراحهم نازفة، ولكنهم صمدوا صمود جبال الجنوب الشامخة.
في ظل هذه المشاهد التي يتداخل فيهم التاريخي باللحظي والثوري بالنفعي والوطني بالشخصي يقف شعب الجنوب حاملاً قضيته بمفرده في ساحات المزايدات السياسية والتآمرات المحلية والإقليمية والدولية مراهناً على نبل قضيته وقوة الحق فيها وازدياد الوعي الجماهيري بها وإدراكه بحتمية انتصارها وضرورة الدفاع عنها في خضم هذه الأجندات التي تسعى جميعها من النظام وأتباعه وعناصره وجماعاته ومليشياته المسلحة التي تأتمر وفقاً ومشيئته ومخططاته أو المعارضة السياسية وعمادها القوي القبلية الحاشدية ووجوها العسكرية المتنفذة، جميعها، مضافاً إليها جميع الساحات التي استنفع شبابها وأسرها ومناطقهم من ثروات الجنوب في العقدين الماضيين وفقهوا حقيقة الوحدة النفعية التي يراهنون على استمرارها بقليل من الذكاء الذي وظفوا بفضله بعض النفعيين في مناطق الجنوب للهتاف بواحدية ثورة التغيير في الشمال والجنوب متناسين أن ثورة الجنوب كانت سباقة للنضال ومواجهة ديكتاتورية النظام والأصل في الأشياء أن يتبع اللاحق السابق وليس العكس، وفي أقل تقدير أن يدعه يواصل سيره لتحقيق غاياته بعيداً عن محاولات الاحتواء التي تتعالى من أجلها الأصوات وتكتب الأقلام وتهتف الجموع وترفع الرايات والجنوب والغالبية العظمى من أهله يواصلون السير في طريق الحرية والانعتاق من ظلم الجار الذي قربه شعب الجنوب خلال ربع قرن مضى ونيف من استقلاله ليوصله إلى مرتبة الشقيق وما هو بشقيق، وليس هناك من عدل وإنصاف بعد أن تعرت جميع الوجوه وفقدت أصباغها الوحدوية والوطنية والقومية والاشتراكية والإصلاحية إلا أن تدع هذا الشعب العظيم يقرر مصيره بنفسه ويحدد خياراته وشكل نظامه وطبيعته وفقاً وإرادته الشعبية والوطنية، وما دون ذلك فهو خرط القتاد واستمرار لسياسة الضم والإلحاق، وهو ما لن يقبله شعب الجنوب في الأيام القريبة القادمة.