التغيير يهز العالم العربي
اليمن: «صراع النفوذ» يضعف حلم الديموقراطية
يمنيون معارضون للنظام يطاردون جنودا حاولوا منعهم من التظاهر في تعز بقوت السلاح (رويترز)
منى فرح
مع تواصل المعارك الطاحنة في العاصمة اليمنية صنعاء بين قوات نظام علي عبدالله صالح من جهة، وعناصر القبائل الموالية لزعيم قبيلة «حاشد»، الشيخ صادق الأحمر، يكون اليمن قد دخل مرحلة جديدة من الصراع ضمن سلسلة الصراعات الطويلة التي يقوم عليها تاريخه المتأزم في أغلب الأحيان. وتتجلى مخاطر «الصراع على النفوذ»، الذي بدأ منذ أكثر من أسبوع، في التداعيات السلبية جدا التي يضيفها على حركة الاحتجاجات السلمية التي اندلعت منذ أكثر من أربعة أشهر. فالمطلب الأساسي، وهو إسقاط النظام وبناء مجتمع مدني ديموقراطي، سيتهمش حتما، ولو الى حين. وصار الحل الذي يمكن أن يأتي الآن هو ما ستفرزه المعادلة الجديدة، التي أصبحت اليوم تقتصر على قطبين داخل أركان النظام: الرئيس صالح وآل الأحمر.
يشكل اندلاع التقاتل بين القبائل على النفوذ، منذ لحظته الأولى، خطرا على برنامج المعارضة ويجمد عملها، لكنه المكسب الأبرز الذي صب في مصلحة الرئيس صالح مؤخرا. فالرئيس اليمني لا يريد أن تستلم المعارضة السلطة لأنه بكل بساطة لا يريد أن يتحول الى «مبارك آخر»- كما يقول مصطفى العاني، مدير قسم دراسات الأمن والدفاع في مركز الخليج للأبحاث في دبي- في إشارة الى الرئيس المصري السابق. «وحتى لو أجبر الآن على تسليم السلطة، فسيكون ذلك ضمن ترتيب مع هذين الركنين (الأحمرين) وليس مع المعارضة أو الشباب».
وها هو اليمن اليوم يشهد صراعين متوازيين: ثورة شعبية ألهمها «ربيع الثورات» الذي حل على الوطن العربي من جهة، وصراع ضمن النخبة الحاكمة والمقربين منها من الجهة الأخرى.
سياسة التملص
دأب صالح، طوال الأشهر الماضية، على التصريح أمام مواطنيه، كما أمام الوسطاء والرعاة الأميركيين والبريطانيين والخليجيين، بأنه مستعد لترك الحكم «سلميا»، لكنه في أحاديثه الخاصة مع بطانته من المساعدين «يسخر» من الاتفاق الذي يدعمه الغرب لإنهاء حكمه الممتد منذ 33 عاما، وفق ما نقلت وكالة رويترز عن مقربين من النظام اليمني. كما أن خوضه حربا مع «أقوى» قبيلة في اليمن يعني أنه لا يعتزم التنحي أو التنازل عن السلطة. وإن لديه كل النية بالبقاء، وقد «اتخذ قرارا بذلك وبفرض شروط رحيله».
وكان الطابع السلمي الذي تميزت به الاحتجاجات في المدن اليمنية، التي تزداد زخما ومثابرة أسبوعا بعد الآخر، قد أضعف موقف الرئيس صالح كثيرا أمام الرأي العام اليمني كما أمام المجتمع الدولي، مع انضمام ضباط في الجيش ووحدات من الحرس الجمهوري وشيوخ قبائل ورجال دين وساسة الى المعارضة.
لكن الرئيس صالح ما زال يسيطر على ثلثي الجيش، وحتى الآن لم تحصل حركة انشقاق تغيير المواقف أكثر مما حدث خلال الشهرين الأول والثاني من الاحتجاجات. كما أن القبائل الكبرى الأخرى (وأهمها قبيلة «بكيل» الأكبر عددا) لم تدخل الصراع بعد، فيما أنصار قبيلة الأحمر في الشارع هم بالمئات فقط، وفق المراقبين.
لذلك، كان الرئيس صالح يعطل رحيله ويضع شروطا إضافية في كل مرة ظن فيها المفاوضون أنهم توصلوا الى اتفاق وأن صالح أخيرا على وشك التوقيع على التنحي. وآخر ما فعله في هذا الإطار كان إعطاء أوامر لعناصر مسلحة موالية له بمحاصرة سفارة الإمارات في صنعاء يوم التوقيع المزمع، مما أدى الى انسحاب المفاوضين، وتعليق المفاوضات.
ما يهم صالح، أكثر من أي شيء، هو إحداث انشقاق في صفوف المعارضة (الرسمية منها وما يعرف اليوم بشباب الثورة). ولما كان التأخير في الحسم لا يصب في مصلحة السلطة، خصوصا أن المحتجين جادون في موضوع التخطيط للزحف الى القصر الجمهوري وإسقاط النظام.
الحسم بقوة السلاح
كان لا بد لصالح من المبادرة. و«القوة» هي السلاح الأقوى والأنفع بالنسبة له ليضمن نتائج الحسم الى جانبه، فيما ليس لقوى المعارضة من مصلحة في الدخول في صراع مسلح. فهي أولا لا تتمتع بالقوة الكافية للإطاحة بالرئيس صالح وقوتها في سلمية تحركها. وثانيا من مصلحتها أن لا تدخل طرفا في أي معادلة، لأن في ذلك نهايتها.
فتحت وطأة انتقادات دولية شرسة لحنثه بوعده بالتنحي، وتحميله وحده مسؤولية «عرقلة الحوار»، حرك صالح قواته فورا نحو أولاد الأحمر في تعز ليحول أزمة سياسية الى أعمال عنف تقرب اليمن خطوة من الحرب الأهلية.
وفي اليوم التالي أعلن أنصاره أن «مسلحين إسلاميين» سيطروا على بلدة زنجبار، مركز محافظة آبين (جنوب البلاد)، بعدما انسحبت القوات الحكومية منها بطريقة مثيرة للشبهات. تزامن ذلك مع إصدار عدد من ضباط الجيش اليمني المؤيدين للمعارضة بيانا بعنوان «بيان رقم واحد» اتهموا فيه الرئيس بتدبير «مخطط لتسليم مدن في الجنوب لجماعات القاعدة بهدف ابتزاز الدول الغربية والتهرب من استحقاقات المبادرة الخليجية وإجهاض الثورة السلمية».
وإسقاط المعارضة يعني أيضا إضعاف وكسر الأطراف الأخرى المنطوية خلفها في صراعاتها مع صالح، ومن أبرز هذه الأطراف «أولاد الأحمر»، الذين يتولون مناصب سياسية مهمة ومواقع اجتماعية رفيعة، يعون جيدا أن سقوط المعارضة يعني حكما خسارة كبيرة لنفوذهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
صراع نفوذ
فالمنافسة بين الفئات النخبوية المختلفة في اليمن ما برحت تعتمل منذ عدة سنوات، وكانت تزداد شدة كلما كان الرئيس صالح يعمد الى تركيز السلطات بأيدي أفراد أسرته وأقربائه.
وبحسب تقرير مفصل نشرته «البي بي سي» فان كل فئة من هذه الفئات النخبوية تعمل على استمالة مأجورين ووكلاء لها من كل الطيف السياسي اليمني ومن الوزارات والدوائر الحكومية والجيش إضافة الى شيوخ القبائل ووجهائها.
وهذه المنافسة هي ما دفع بالشيخ صادق الأحمر لإعطاء الأوامر لأنصاره بالتحرك ضد القوات الموالية لصالح في العاصمة صنعاء، وهي أيضا ما دفعت الى الحشد القبائلي الى صنعاء أمس.
فالشيخ صادق الأحمر هو كبير شيوخ أقوى تجمع قبلي في اليمن- تجمع قبائل حاشد. أما شقيقه حمير، فكان نائبا لرئيس البرلمان اليمني قبل استقالته في مارس الماضي وانضمامه الى صفوف الثوار. وهناك شقيق ثالث، حسين، الذي كان له دور بارز في تنظيم مقاتلي القبائل الذين شاركوا في قتال الحوثيين. أما الشقيق الرابع، حميد، فهو من كبار سياسيي المعارضة ورجال الأعمال.
وكانت الموجة الأولى من التظاهرات والاحتجاجات التي شهدها اليمن منظمة من قبل المعارضة المعروفة، ويعتقد على نطاق واسع أن حميد وغيره من رجال الأعمال اليمنيين يدعمون المعتصمين في مخيمات المعارضة ماليا، بحسب تقرير «بي بي سي». ولكن الزخم الذي اكتسبته الثورة سرعان ما أخرجها من نطاق سيطرة المعارضة التقليدية، حيث بدأ الناشطون الشباب المستقلون بالمطالبة بإجراء تغييرات جذرية في بنية نظام الحكم، تمنح المزيد من السلطات الى مؤسسات الدولة، وتجعل من الممكن محاسبة النخب اليمنية.
وتزامن الصراع الحالي داخل النخبة الحاكمة مع انتقال السلطة داخل آل الأحمر من الشيخ الراحل عبد الله الأحمر (توفي عام 2007) الى أولاده.
وفي الوقت ذاته، يناور أكبر أبناء الرئيس وأولاد أخيه للفوز بالخلافة ومن نتائج هذه المناورات والصراعات انه أصبح من الضروري إعادة النظر في اتفاق تقاسم السلطة الذي ابرمه الشيخ عبد الله الأحمر مع الرئيس في الثمانينات والتسعينات.
كما سيلعب اللواء علي محسن الأحمر (قائد الفرقة المدرعة الأولى وقائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية، الذي انشق عن الرئيس صالح وانضم الى صفوف الثوار) دورا مهما في تقرير مسار الصدامات الجارية حاليا. وكانت الحزازات بين الأخير وأسرة صالح قد بدأت تطفو الى السطح أبان الحرب على الحوثيين في صعدة عام 2004. فاللواء علي محسن يعارض النفوذ المتصاعد الذي كان قد بدأ يتمتع به أحمد، ابن الرئيس صالح، والذي كان يقود فرقة تابعة للحرس الجمهوري كانت تشارك هي الأخرى في حرب صعدة. ويقال إنه في عام 2009، تآمر المخططون العسكريون الموالون للرئيس صالح للتخلص من علي محسن.
ومنذ انشقاق علي عن الرئيس صالح في مارس الماضي، تنتشر دبابات الأول في مواقع استراتيجية في العاصمة، بعد أن أعلن نفسه «حاميا» للمحتجين.
إضعاف المعارضة
حتى الآن، يرى كثير من المراقبين أن ميزان القوة يميل لمصلحة الرئيس اليمني الذي يسيطر على قوات النخبة، فيما المعارك لا تزال محدودة الأهمية وتتركز حول منازل الأحمر في منطقة في صنعاء، تكمن أهميتها بأنها تضم جميع وزارات الدولة. لكن إذا ما ظل عنصر الضغط الخارجي ضعيفا كما هو الآن، فان الاقتتال الذي يأخذ اليوم صيغة «صراع على النفوذ» قد يتحول الى حرب أهلية، خصوصا أن البدائل المتاحة أمام شباب ثورة التغيير في ظل الوضع الحالي تكاد تكون معدمة.
فالحلم الذي أطلقته الحركة الشبابية حول قيام مجتمع مدني تقدمي في اليمن التقليدي، قد بدأ بالتلاشي مع عودة العنصر القبلي بقوة. فحشود ساحات التغيير تقلصت على وقع الرصاص، وأصبح دورها هامشيا، والمعارضة، وهي غير موحدة أصلا، سحبت من المعادلة، التي أصبحت اليوم تقتصر على قطبين أساسيين: الرئيس من جهة وآل الأحمر واللواء علي محسن من جهة أخرى.
على الرئيس صالح أن يتخذ قرارا واحدا وهو التوقيع على «الاتفاق الخليجي» والتنحي والسماح بالانتقال السلمي للسلطة. أما إذا تمسك بتهديده بأنه «سيترك اليمن كما وجده لدى تسلمه» الرئاسة، فمعنى هذا أن اليمن سينزلق في حمامات دم قبلية حينا وأهلية حينا آخر وإرهابية بالتأكيد، وربما إقليمية أيضا. وعلى المجتمع الدولي دعم المعارضة بشكل أفضل والضغط على صالح بجدية أكثر.
http://www.alqabas.com.kw/Article.as...&date=04062011