درس يناير المشؤوم لحراك الجنوب؟
د. سالم سيف بن حسين الجابري
قبل خمسة وعشرين عاماً، وفي مثل هذا التاريخ من صبيحة يوم الاثنين الدامي (13/ يناير) اقتتل الرفاق، في جولتهم الدامية الأخيرة، فسقط من سقط، وغادر من غادر، لتنكب الجنوب مجدداً بكارثة إنسانية دفع الوطن بمحافظاته الست ثمناً باهظاً، ودك آخر معاقل البنية للدولة الجنوبية، ولأننا في هذه الوقفة لا نبحث عن فتح ملفات كما يحاول الكثيرون، ولا ننكأ الجرح، كما يتمنّى النظام وأعوانه وزبانيته، فإننا نحاول أن نستلهم العبر والدروس من يناير الدامي، فربع قرن من الزمان كفيل بأن يميط اللثام عن كثير من حقائق التاريخ التي أصبحت واضحة لكل مكونات العمل الوطني والنضالي في الجنوب المغتصب والمسلوب الأرض والدولة والثروة، وخلال السنوات الخمس الماضية، وبعد لقاء التصالح والتسامح في العاصمة عدن في جمعية ردفان في الذكرى العشرين لهذه الكارثة الجنوبية الجنوبية، تعددت التصريحات والأحاديث والمواجهات والاعترافات لرفاق النضال الوطني الذين فرقتهم مخططات الأعداء وأعوانه، ليقدموا الدليل تلو الدليل بخطأ جميع جولات الصراع الدموية منذ حركة مارس 1968، ويونيو 69، وما تلاها من تلك الصراعات التي ذهب بخيرة الكوادر الوطنية وسحقت في طريقها العقول النيرة والأمينة على تجربة النضال ومعارك الاستقلال ومقاومة الاحتلال البريطاني، وكلها يتردد الآن صدى كارثيتها في مسيرة النضال السلمي لمكونات الحراك الجنوبي لاستعادة الهوية الوطنية والدولة الجنوبية والخروج من شرنقة الوحدة المغدور بها في حرب صيف 1994م.
إن مهرجانات التصالح والتسامح التي عزفت ألحان الخلود للوطن الجنوبي من عدن إلى المهرة لهي المرتكز الأساس لتضميد جراحات الماضي المؤسف، ولهي اللبنة المتينة التي تشكل كوبري عبور آمن للانعتاق من ظلم الأخوة الأعداء، ومرارة الحيف والغبن والظلم والهيمنة والإقصاء والتدمير المنظم الذي يستمر بحلقاته المتكررة في كل شبر من أرض الجنوب، كل هذه المهرجانات والمسيرات والهبّات الشعبية والاعتصامات والعصيان المدني الذي تشهده مدن وقرى الجنوب يضع على عاتق القيادات السياسية بالتحديد الذي يقفون مع قواعدهم لمواجهة الغطرسة والجبروت وضرب أواصر الجوار في مقتل، يضعهم أمام مواجهة تحديات المرحلة الصعبة القادمة ويلقي بهم في أتون الحاضر وأمانة المصير المشترك الذي تراهن الأجيال الجديدة المتحررة من ضغائن ذلك الماضي وتصفية حساباته لترتفع هامات تلك القيادات لتصل إلى قمة الطموحات وسقف الأماني الكبيرة لعودة الجنوب للجنوبيين، ولتكن تجربة الجنوب السوداني شاهدة على توحد المكونات المقاومة وقواعد العمل النضالي ووضوح الأهداف الوطنية لتقرير مصير الجنوب والعمل كصف واحد دون هوادة أو تلكؤ لتحقيق هذه الأهداف، وهو النضال الطويل الذي توج في الحادي عشر من يناير الجاري بحقّهم في التصويت الحر على الانفصال أو الالتحام ثانية بالشمال، هذا السير بخطى ثابتة ونضال موحد للوصول إلى هدف الاستقلال وتحرير الإرادة الجنوبية السودانية دفع بالمجتمع الدولي إلى الوقوف مع تطلعات شعب الجنوب لترجمة إرادتهم في إقامة دولته الجديدة، فكيف يكون حال الجنوب وهو الذي سلّم دولة مؤسسات قبل عشرين عاماً؟! فالأمر كما يبدو أكثر يسر وسهولة للعودة بالأوضاع إلى ما قبل مايو 1990م، دون استعادة المنهج والتوجه الذي ساد قبل العام ذاته، والأخذ بما هو ملائم لروح العصر والانفتاح على التجارب الإنسانية الناجحة في العالم والأخذ باقتصاد السوق وحرية التجارة وتأمين العدالة الاجتماعية وتوازن الفرص بين أبناء الوطن الواحد لتحقيق التنمية العادلة والمستدامة لجميع أجزاء الجنوب.
يأتي الثالث عشر من يناير 2011م، ومكونات الحراك السلمي في الجنوب تشهد حراكاً داخلياً آخر، جدير به أن يكون عاملاً مساعداً وصحياً لتصحيح الاخلالات وتشذيب النوازع الشخصية لدى بعض قيادات العمل الوطني ومحاولتها غير الحميدة لجر الحراك السلمي المقاوم إلى صراعات بينية لا تفيد في هذه المرحلة التاريخية الحرجة لأبناء الجنوب، خاصة، والجميع يدرك مأزق النظام، داخلياً وخارجياً، وهي الفرصة التي يجب ألا تذهب هدراً، وتستغل لتقدم خطوات كبيرة للوصول إلى اليوم الموعود الذي تشير كل الدلائل الميدانية إلى اقترابه كثيراً، إذا أدركت تلك القيادات أن (13 يناير 2011م) هو اليوم الذي ترص فيه الصفوف وتتوحد القيادات، بعد أن توحدت بقوة تحت لواء المرجعية الوطنية والتاريخية والأب النضالي حسن أحمد باعوم، الرمز الذي أعاد للثورات العربية روحها ووهجها الثوري لمقاومة كل أشكال الديكتاتوريات الحاكمة للأنظمة العربية، الرمز الذي أعاد مشهد القيادة التاريخية المحمولة على أكتاف الجماهير الغفيرة وتحميه بحدقات العيون وهو يترجم مشاعرها بكل تضحية وإيثار، لقد تشابكت الأيدي لتعلن على الملأ تفويضه لرأب الصدع وتوجيه العمل النضالي السلمي وصون مكاسبه التي حققها، وممارسة كل أشكال النضال لفك الحصار عن المدن والقرى الجنوبية المحاصرة بجحافل التتار الجدد، ولتكن الذكرى القادمة موعداً لآخر فرصة لكل العناصر الجنوبية المنبطحة في حضن النظام.
إن الجنوب وهو يقترب من استعادة دولته القادمة في حاجة إلى الاستفادة مما تبقى من تلك الذكرى الأليمة، وطيها نهائياً، والتمسك بمشروعية التصالح والتسامح الجنوبي الجنوبي..