قريبا تحل علينا الذكرى الثالثة والأربعين لتحرر إستقلال البلاد الغالية الكريمة ،الجنوب، التي كانت لها دولة حرة مستقلة هي ملئ السمع والبصر ، وكانت عاصمتها ورمز صمودها وقلبها الحاني، عدن ،التي قال أحد الكتاب عنها ذات يوم في ستينات القرن الماضي بأن الفقير يدخلها فيغنى ويدخلها الجائع فيشبع ويدخلها الخائف فيأمن. هذه الذكرى غالية وعزيزة على نفوس أبناء الجنوب، فهي إنتصار لإرادتهم ولكفاح أجيال متتالية منهم منذ إحتلال أرضهم في يناير1839 . وقد كان إنجاز الإستقلال ثمرة لسلسلة متواصلة من الإنتفاضات والمقاومة البطولية وعبر النضال بالكلمة الشجاعة والرأي الحر والمقارعة بالحٍجة، وكان أبطاله وصنّاعه هم أبناء الجنوب كافة، رجال ونساء، فقراء وأغنياء، تنظيمات وأحزاب ،مدن وأرياف.
وكان أبناء الجنوب في الداخل ومعهم إخوتهم من المهاجرين والمغتربين في شتى بقاع الأرض ينتظرون بشوق و بلهفة لهذا اليوم العظيم ،الذي يبنون فيه دولتهم ويشيدون بسواعدهم وبجهدهم واحة الإستقرار والرخاء وموطن العدل والأمان لهم ولمن يعيش بينهم ومعهم، وليعيدوا بعث تاريخهم العريق الضارب في أعماق التاريخ ، وليمدوا الجسور بين الحاضر المليء بالآمال والمبشر بالخير مع حضارة الأجداد العظام دول حضرموت وأوسان وقتبان وحمّير ، ومع أدوارهم المشرفة في نشر الإسلام الحنيف ورسالة التسامح وإسهاماتهم الجلية في البناء والعطاء حيثما وطأت أقدامهم في كل مشارق الأرض ومغاربها.
لقد كان تحرير الجنوب وتحقيق الإستقلال وإقامة دولة الجنوب الحرة المستقلة في الثلاثين من نوفمبر 1967 ، من دون أي شك إنجاز وإنتصارعظيم ، لكن تحديات ما بعد الإستقلال وبناء الدولة وتحقيق أمال الجنوبيين في الإستقرار والرخاء وفي المحافظة على مكاسب الإستقلال كان هو التحد القاسي وإلإمتحان الأصعب التي بيّنت الأيام وما مر به الجنوبيون وما يعانونه اليوم إن من أمسك بالسلطة في الجنوب قد أفتقر لقدر كبير من الحنكة ولم يقرأ الواقع بعناية ولم يضع المصلحة الجنوبية دائما فوق الإعتبارات الأخرى.
لكن وكي نكون منصفين أيضا فإن من المهم إدراك أن جذور الأزمة الجنوبية لم تولد صباح يوم الإستقلال ، بل أنها للأسف كانت كامنة قبل ذلك بوقت غير قصير، حيث أخفقت النخب الجنوبية مجتمعة ولأسباب عديدة من التخفيف من حدة التمترس حول الشعارات وفي الإتفاق على رؤية أو ميثاق مشترك بشأن مستقبل الجنوب ، وكذا في الوصول الى شكل من التوافق بشأن تشكيل مرجعية جنوبية لتقوم بكبح حدة التنافس السياسي ولمنع الإنزلاق نحو ثقافة العنف والإلغاء . وقد كانت الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية في الجنوب وبالذات في عدن زاخرة بالنشاط وبالتنوع والإختلاف وكان من المهم أن يستفيد الجميع من ذلك الواقع المتميز الذي وضع الجنوبيين متقدمين بأشواط بعيدة عن كثير من الشعوب الأخرى.
إن تكرار الأخطاء وعدم معالجتها وعدم قراءة الواقع بشكل دقيق وعدم امتلاك الرؤية السليمة قد جعل شعب الجنوب يفيق بعد إعلان الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية ليجد وطنه قد سلب منه وأصبح فيه غريبا معدما ، وليجد بين عشية وضحاها أن استقلاله ودولته ومستقبل أجياله القادمة قد ضاعت كلها مقابل ما سمي بوحدة ليس لها من إسمها ومعناها صلة، وحدة لونها الدم وروحها الغدر وقلبها الحقد وسمتها الطمع وغايتها الإذلال والموت .
إن الواقع القاسي والمؤلم والكارثة المدمرة التي لحقت بالجنوب وأهله تحتم على شعب الجنوب وبشكل خاص قوى الحراك السلمي الجنوبي ، وكافة القادة والنخب الجنوبية من مختلف الخلفيات السياسية والإجتماعية ممن كانوا في سدة حكم الجنوب وممن أقصوا عنها في المراحل المختلفة منذ فجر الإستقلال 1967 ، للتعلم من التجربة المرة ومن الإخفاق السابق ولينجزوا ما غاب أو قصرعن إنجازه في الماضي ، ما قبل الإستقلال عن الإستعمار البريطاني ، في التداعي من دون تباطؤ إلى حوار معمق وجاد يفضي إلى إختيار مرجعية جنوبية تضع رؤيتها لمواجهة ومعالجة التحدي المصيري الذي يواجهه وطننا ولرسم المسار وحشد الطاقات بشأن كيفية تحقيق ما يريده شعب الجنوب ، فالجنوب ما عاد يقبل أن يجرب المجرّب.
فبعد كل ما حصل فأن من الواجب على الجميع السعي في المشاركة لإنجاز مهمة عظيمة تكون بحجم التحدي وبمستوى تطلعات أبناء الجنوب ومن أجل إنقاذ الجنوب ، مهمة ليس مسموحا فيها الإنفراد بالرأي ولا يعذر من المشاركة بها أحد و ليس لأحد الحق في ممارسة الإعتراض أو الإقصاء لأحد .
أن الحكمة ضالة المؤمن ، والتعلم من الأخطاء هو لاشك فضيلة ، وسيجنبنا ذلك من دون شك الوقوع في مآسي عديدة وسيحمينا من مخاطر محدقة كثيرة . وليس هناك ما هو أفضل مما يمكن أن نقدمه لقضيتنا في هذا الوقت بالذات مثل السمو على الخلافات والترفع عن أي حسابات والحرص على تقريب وجهات النظر بين أبناء الجنوب من أجل إنجاز عمل يليق بشعبنا الكريم وبذكرى إستقلالنا المجيد ، وفعلى من يبحثون على فرص إستثمار جديدة لقضية الجنوب أن يرفعوا أيديهم فشعب الجنوب لن يسمح لأحد أو يقبل بطيبة خاطر من أي كان أن يسوقه أو يقوده مرة أخرى الى نكبة وكارثة جديدة
|