عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-10-11, 03:44 AM   #73
NoOne
قلـــــم فضـــي
 
تاريخ التسجيل: 2008-07-18
المشاركات: 1,095
افتراضي




لحن الحياة


أبو القاسم الشابي


إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة *** فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي *** ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ

ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة *** تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ

فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـاة *** مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ

كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ *** وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ

*****

ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج *** وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ

إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ *** ركــبتُ المُنــى, ونسِـيت الحـذرْ

ولــم أتجــنَّب وعــورَ الشِّـعاب *** ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ


ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ

فعجَّــتْ بقلبــي دمــاءُ الشـباب *** وضجَّــت بصـدري ريـاحٌ أخَـرْ

وأطـرقتُ, أصغـي لقصـف الرعـودِ *** وعــزفِ الريــاحِ, ووقـعِ المطـرْ

*****

وقـالت لـي الأرضُ - لمـا سـألت: *** أيــا أمُّ هــل تكــرهين البشــرْ؟

أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح *** ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ

وألْعــنُ مــن لا يماشــي الزمـانَ *** ويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ


هــو الكــونُ حـيٌّ, يحـبُّ الحيـاة *** ويحــتقر المَيْــتَ, مهمــا كــبُرْ

فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِ *** ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ

ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوم *** لَمَــا ضمّــتِ الميْـتَ تلـك الحُـفَرْ

فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـا *** ة, مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ!


*****

وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف *** مثقَّلـــةٍ بالأســـى, والضجـــرْ

ســكرتُ بهـا مـن ضيـاء النجـوم *** وغنَّيْــتُ للحُــزْن حــتى ســكرْ

سـألتُ الدُّجـى: هـل تُعيـد الحيـاةُ, *** لمـــا أذبلتــه, ربيــعَ العمــرْ ؟

فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــلام *** ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ

وقــال لــيَ الغــابُ فــي رقَّـةٍ *** مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ:

يجــئ الشــتاءُ, شــتاء الضبـاب *** شــتاء الثلــوج, شــتاء المطــرْ

فينطفــئُ السِّـحرُ, سـحرُ الغصـونِ *** وســحرُ الزهــورِ, وسـحرُ الثمـرْ

وســحرُ السـماءِ, الشـجيُّ, الـوديعُ *** وســحرُ المـروجِ, الشـهيُّ, العطِـرْ

وتهـــوِي الغصــونُ, وأوراقُهــا *** وأزهــارُ عهــدٍ حــبيبٍ نضِــرْ

وتلهــو بهـا الـريحُ فـي كـل وادٍ, *** ويدفنُهَــا الســيلُ, أنَّــى عــبرْ

ويفنــى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــديعٍ, *** تـــألّق فـــي مهجــةٍ واندثــرْ

وتبقــى البــذورُ, التــي حُـمِّلَتْ *** ذخــيرةَ عُمْــرٍ جــميلٍ, غَــبَرْ

وذكــرى فصــولٍ, ورؤيـا حيـاةٍ, *** وأشــباحَ دنيــا, تلاشــتْ زُمَـرْ

معانقــةً - وهـي تحـت الضبـابِ, *** وتحــت الثلـوجِ, وتحـت المَـدَرْ -

لِطَيْــفِ الحيــاةِ الــذي لا يُمَــلُّ *** وقلــبِ الــربيعِ الشــذيِّ الخـضِرْ

وحالمـــةً بأغـــاني الطيـــورِ *** وعِطْــرِ الزهــورِ, وطَعـمِ الثمـرْ

*****

ويمشـي الزمـانُ, فتنمـو صـروفٌ, *** وتــذوِي صــروفٌ, وتحيـا أُخَـرْ

وتُصبِـــحُ أحلامُهـــا يقظَـــةً, *** مُوَشَّـــحةً بغمـــوضِ السَّــحَرْ

تُســائل: أيــن ضبـابُ الصبـاحِ, *** وسِــحْرُ المسـاء? وضـوء القمـرْ؟

وأســرابُ ذاك الفَــراشِ الأنيــق؟ *** ونحــلٌ يغنِّــي, وغيــمٌ يمــرْ؟

وأيـــن الأشـــعَّةُ والكائنــاتُ؟ *** وأيــن الحيــاةُ التــي أنتظــرْ؟

ظمِئـتُ إلـى النـور, فـوق الغصونِ! *** ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ!

ظمِئـتُ إلـى النَّبْـعِ, بيـن المـروجِ, *** يغنِّــي, ويــرقص فـوقَ الزّهَـرْ!

ظمِئــتُ إلــى نَغَمــاتِ الطيـورِ, *** وهَمْسِ النّســيمِ, ولحــنِ المطــرْ

ظمِئـتُ إلـى الكـونِ! أيـن الوجـودُ *** وأنَّـــى أرى العــالَمَ المنتظــرْ؟

هـو الكـونُ, خـلف سُـباتِ الجـمودِ *** وفـــي أُفــقِ اليقظــاتِ الكُــبَرْ

*****

ومـــا هــو إلا كخــفقِ الجنــا *** حِ حــتى نمــا شــوقُها وانتصـرْ

فصَـــدّعت الأرضَ مــن فوقهــا *** وأبْصــرتِ الكـونَ عـذبَ الصُّـوَرْ

وجـــاء الـــربيعُ, بأنغامِـــه, *** وأحلامِـــه, وصِبـــاه العطِــرْ

وقبَّلهـــا قُبَـــلاً فــي الشــفاهِ *** تعيــدُ الشــبابَ الــذي قـد غَـبَرْ

وقــال لهــا: قـد مُنِحْـتِ الحيـاةَ *** وخُــلِّدْتِ فــي نســلكِ المُدّخَــرْ

وبـــاركَكِ النُّـــورُ, فاســتقبلي *** شــبابَ الحيــاةِ وخِــصْبَ العُمـرْ

ومَــن تعبــدُ النــورَ أحلامُــه, *** يُبَارِكُـــهُ النّــورُ أنّــى ظهــرْ

إليــكِ الفضــاءَ, إليــكِ الضيـاءَ *** إليــك الــثرى, الحـالمَ, المزدهـرْ!

إليــكِ الجمــالَ الــذي لا يَبيــدُ! *** إليــكِ الوجـودَ, الرحـيبَ, النضِـرْ!

فميـدي - كمـا شئتِ - فوق الحقولِ, *** بحــلوِ الثمــارِ وغــضِّ الزّهَــرْ

ونــاجي النســيمَ, ونـاجي الغيـومَ, *** ونــاجي النجــومَ, ونـاجي القمـرْ

ونـــاجي الحيـــاةَ وأشــواقَها, *** وفتنــةَ هــذا الوجــود الأغــرْ

*****

وشـفَّ الدجـى عـن جمـالٍ عميـقٍ, *** يشُــبُّ الخيــالَ, ويُــذكي الفِكَـرْ

ومُــدّ عـلى الكـون سِـحرٌ غـريبٌ *** يُصَرّفــــه ســـاحرٌ مقتـــدرْ

وضـاءت شـموعُ النجـومِ الوِضـاءِ, *** وضــاع البَخُــورُ, بخـورُ الزّهَـرْ

ورفــرف روحٌ, غــريبُ الجمـال *** بأجنحــةٍ مــن ضيــاء القمــرْ

ورنَّ نشـــيدُ الحيـــاةِ المقـــدّ *** سُ فــي هيكـلٍ, حـالمٍ, قـد سُـحِرْ

وأعْلِــنَ فــي الكـون: أنّ الطمـوحَ *** لهيـــبُ الحيــاةِ, ورُوحُ الظفَــرْ


إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُ *** فــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر




لي عودة وأتمنى أن تتأملوا كلمات هذه القصيدة الرائعة والمشهورة خصوصا مالون بالأحمر وتحته خط


NoOne غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس