عاد الميدا ليتولى قيادة مجموعته ، والقى صندوقا من الذخيرة عند قدمي ، وعندما عاتبته على هذا العمل نظر الي وعلى وجهه علامات الضيق ، وتمتم كما لو كان يقول : اليس هذا الوقت الذي ينبغي ان الازم فيه صناديق الذخيرة ؟ ثم مضى في طريقه نحو حقل قصب السكر واختفى . وقد قتله رجال باتيستا بعد قليل .
ربما كانت هذه هي المرة الاولى التي اواجه فيها مشكلة الاختيار بين اخلاصي للطب وواجبي كجندي ثوري . فهناك عند قدمي حقيبة مليئة بالادوية وصندوق من الذخيرة تاركا الادوية وبدأت اعبر المكان المكشوف متجها الى حقول قصب السكر . واذكر ان فوسينو بييز كان راكعا يطلق الرصاص من مسدسه الاوتوماتيكي وبالقرب مني رفيق يدعى أربونتوزا كان يحاول الاتجاه نحو حقل قصب السكر .
وفجأة شعرت بضربة حادة في صدري وبجرح في رقبتي . لقد أصابتني احدى رصاصات جنود باتيستا ، وتصورت على على وجه اليقين اني ميت . وكان اربنتوزا يتقيأ وينزف دماء غزيرة من ثقب عميق احدثته رصاصة من عيار 45 ملليماترا وكان يصرخ " لقد قتلوني " وبدأ يطلق نيران بندقيته بلا هدف محدد .
وانبطحت ارضا واستدرت نحو فوستينو وقلت لقد اصبت ونظر الي فوستينو وكان لا يزال يطلق النار وقال " لا يهمك " ولكنني استطعت ان ادرك من نظرته انه يعتبرني ميتا بالتأكيد .
اطلقت رصاصة في اتجاه الادغال وانا لا أزال منبطحا على الارض وكان ذلك بشعور غريزي مماثل لشعور الجرحى الاخرين . وبدأت على الفور افكر في أفضل طريقة للموت ، وتذكرت قصة لجاك لندن حيث أن البطل ، وقد ادرك انه لا بد سيتجمد حتى الموت في الاراضي المقفرة في الاسكا استند بهدوء الى شجرة واستعد ليموت بطريقة كريمة . وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي خطر لي في تلك اللحظة .
وسمعت رجلا" راكعا على ركبتيه يقول انه من الافضل لنا ان نستسلم لكن صوتا ، علمت فيما بعد انه صوت كاميلو ، صاح قائلا" : لا . . لا ينبغي أن يستسلم احد هنا . وأعقب ذلك بكلمة من اربعة حروف . واقبل احد الرفاق وهو يجري مسرعا ويتنفس بصعوبة . وأراني جرحا احدثته رصاصة ، وكنت على يقين من أن الرصاصة لا بد ان تكون قد اخترقت الرئتين وقال لقد جرحت . فأجبته ببرود وأنا ايضا ثم زحف والفاق الاخرون الذين لم يصابوا نحو حقل قصب السكر ، وللحظة بقيت وحدي مستلقيا ، انتظر الموت . لكن الميدا أقبل علي وحثني على التقدم باتجاه حقل قصب السكر .
ورغم الامي القاسية ، جررت نفسي الى حقل القصب حيث رأيت الرفيق راوول سوريز الذي اطارت ابهامه رصاصة بندقية .
ثم تحول كل شيء الى خلية من الطائرات التي تحلق على ارتفاع منخفض وتضرب الحقل بنيران مدافعها الرشاشة ، مما ضاعف الارتباك والفوضى ، وسط مشاهد مؤلمة ومشاهد تثير الضحك . كان هناك مثلا احد الرفاق الثقيل الوزن وهو يحاول بأقصى جهده ان يختبىء وراء عود واحد من اعواد القصب ، بينما راح رجل آخر ، وسط كل هذا الاضطراب يصرخ بلا سبب قائلا : ((الصمت)) .
ونظمنا مجموعة بقيادة الميدا كانت تضم الملازم راميرو فالديز والرفيقين شاو وبنيتيز . وعبرنا آخر ممر بين صفوف القصب ثم وصلنا بسلام الى الادغال . وفجأة سمعنا صيحات صادرة من حقل القصب: ((حريق))! ورأينا السنة اللهيب وأعمدة الدخان ترتفع عاليا. ولا استطيع ان اتذكر ماذا حدث بالضبط اذ كنت اشعر بمرارة الهزيمة ، وكنت واثقا من انني سأموت. وواصلنا السير حتى خيم الظلام واصبح من المتعذر علينا ان نستمر ، فقررنا ان ننام متلاصقين معا كرزمة واحدة . كنا نكاد نموت من الجوع والعطش ، وضاعف البعوض من عذابنا.
"كانت هذه اول معركة لنا في 5 كانون الاول عام 1956 في ضواحي نيوكويرو. وكانت بداية ما اصبح فيما بعد جيش الثوار."
يتبع..
|