النظام والوجه الآخر للجريمة
عبدالله الهدياني
البؤسُ لابنِ الشَّــــعبِ يأكلُ قلبَه والمــجدُ والإثراءُ للأغرابِ
والشَّعب مَعصوبُ الجفونِ مُقَسَّمٌ كالشّاة بَيْنَ الذّئب والقَصَّابِ
والحقُّ مَقطوعُ اللّســــان مُكَبَّلٌ والظَّلمُ يمرح مُذْهَبَ الجِلبابِ
هــــذا قليلٌ من حياةٍ مُـــــــــــرّة في دولة الأنْصابِ والألقابِ
أبو القاسم الشابي
في زمن تتبدّل فيه الحقائق شكلاً ومعنى ليس هناك ثمّة ما يدعو للغرابة إن ثار أبناء الجنوب على الظلم والطغيان المنظم الذي يمارس بحقهم , واستهجنوا إلى حد التضجر سماع مصطلح (وحدة) طالما أنه جلب لهم الوجه البشري القبيح الذي يرتديه هذا النظام البائس الذي لا يطيب له العيش إلا على أشلاء وجثث الأبرياء وآهات المعتقلين وأنات المقهورين وهم كثر.. فثورة الجنوب وانتفاضة أهله هي النتيجة الطبيعية لممارسات هذا الإخطبوط المتوحش ؛ لكن الغرابة كل الغرابة في ذلك الصمت المسكون بالخوف والذل والمهانة إلى جانب الأنين عند غالبية الشماليين وهم يكتوون بويلات هذا النظام منذُ قرابة خمسة عقود فيا ترى أي تعويذة سحرية قرأها النظام على أرواح هؤلاء الموجودين في سجلات الأحياء على سبيل المجاز بعد أن سلبهم كل مقومات الحياة ولم يبقِ لهم من أبجدياتها سوى التهليل والتسبيح من أسفل الحضيض بحمد الحاكم وطلب بركاته ؛ وأمام هذا التناقض الرهيب بين الحقيقة التي لا غبار عليها وما نراه من شدة حب وتعلق الضحية بالجلاد إلى درجة لم يعد يسمع معها حتى مجرد كلمة (أُفٍ) يشدني هذا التعجب إلى التساؤل : كيف تمكن هؤلاء من مواصلة الحياة في ظل المهانة والاحتقار الممارسين بحقهم طوال تلك السنين بل وفي الوقت الذي يروننا ننتفض صباحاً ومساءً , ونواجه الظلم بصدور عارية دون وهن ؟!!! وأي قوة تحمل عند هؤلاء ؟! ولماذا لم يستحقوا جائزة نوبل العالمية في الصبر والخضوع والقدرة على تعطيل وظائف الحواس ؟!!!.
إن جرائم هذا الجهاز الدموي كثيرة ووخيمة لا يمكن لذي قوة بشرية تحملها أو مقابلتها بالسكوت ولو ثار عليه الصخر الأصم لقلت حُقَّ له أن يثور !!!
وبرغم أن الجريمة مستهجنة ومرتكبها يصعب معايشته أو النظر إليه إلا بعين البغض والارتياب فإن هذا النظام لم يقف عند هذا الحد فحسب وإنما يرتكبها مرتين في آنٍ واحد , ففي المرة الأولى يرتكبها وهذا يمكن أن نسميه الوجه الأول للجريمة ثم ينكرها ويتهم خصومه بارتكابها أو يختلق ذرائع هينة لا ترقى إلى مستوى الحدث مدّعياً أنها السبب لارتكابه الجريمة وأن جريمته ما هي إلا ردّة فعل , وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الوجه الآخر للجريمة لأن الافتراء والكذب على الآخرين وإعلان هذه السخافات والهراء ببيانات إعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية هي جريمة أخرى تضاف إلى الجريمة الأولى وإليك عزيزي القارئ مثالين بسيطين لإثبات هذا الهوس السلطوي في إبادة النساء والأطفال وتدمير المنازل والسخرية بحياة البشر ؛ وليكن المثال الأول هو مجزرة الضالع الأخيرة التي ارتكبها النظام حين قصف بدبابات وراجمات صواريخه أحد أحياء المدينة العامرة بالسكان متذرعاً حيناً بأن هناك من قام برفع الأعلام الجنوبية فيها وحيناً بقيام أحد القناصة بقتل جندي في الموقع الكاتم على أنفاس المدينة والذي يقوم جنوده بمضايقة السكان وكشف عورات بيوتهم دون وجود ذرّة حياء أو ميزان للعار وإلا لما جلسوا فوق رؤوس السكان يطاردونهم بنظراتهم إلى داخل البيوت ولتسأل نفسك هل رفع علم الجنوب يبرر قتل أربعة ما بين طالب جامعي و خريج ومعلم , وجرح ثمانية عشر بينهم أربع نساء (إرهابيات) وأطفال وتضرر (75) منزلاً وحيوانات وممتلكات والقائمة تطول .. علماً أن علم الجنوب مرسوم على كل صخرة على جنبات الطريق وعلى رؤوس الجبال والتلال فلماذا استحق هذا العلم بالذات قصف المدينة ؛ وإذا كانت الذريعة حسب رواية المحافظ طالب الذي تحول إلى ناطق إعلامي في ميدان الجريمة فلماذا أخطأت راجمات صواريخهم ذلك القناص وأصابت الأبرياء ؛ وفي الحالتين هو عذر أقبح من ذنب .
وأما المثال الثاني هو ما طالعتنا به صحف الحاكم (الرسمية والمستقلة) بخبر مفاده العثور على طفلين في ردفان تم اختطافهما من عدن من قبل أفراد يتبعون الحراك (حسب الأكذوبة) وهنا لا أنصب نفسي للقيام بعمل مباحث الدولة ولا رجل قضاء ولكن من واقع معرفتي ومروري الدائم بطريق الضالع - عدن أتساءل أي طريق سلكه الخاطفون دون أن يكشفهم أحد طالما أن هناك ما يقارب عشرين نقطة تفتيش في الخط العام أولها في دار سعد وآخرها أسفل الملاح باتجاه عدن تليها (خبوت) ينتشر فيها مجانين النظام في ساعات الليل المتأخرة و .... و...... ؛ وأفراد هذه النقاط يستوقفون المارة ويفتشون المركبات حتى المحملة بالخضروات والهدف الحقيقي (حق النقطة) ومن يرفض دفعها .... على القارئ إكمال الحكاية ؛ فكيف عبر الخاطفون دون معرفة العيون الساهرة طوال الليل مقابل ( حق الـ .... )؟! وما الغرض من بقاء هذه النقاط الحريصة على تفتيش الطماطم والبصل في كل مائة متر في الوقت الذي من خلالها تهريب البشر حسب الإعلام الرسمي والمستقل للسلطة ؟!!!
إنه الوجه الآخر للجريمة وسمه ما شئت , فهل تعي النظام أن هذه الأكاذيب التي يبثها أصحاب الدماء الزرق في جنح الظلام هي كذلك الوجه الثاني له والذي يكشف لنا بداهة عن الوجه الأول للجريمة ؟! ثم إن أبناء الجنوب أكثر ثقافة وكياسة منهم شاءوا أم أبوا فمن هذا (الحراكي الغبي) الذي يختطف الضحية ويضعها أمام منزله ؟!!! إنها مسرحية سلطوية مكشوفة ما زال مخرجها بحاجة للتأهيل وأنصحه بالالتحاق بأقرب روضة أطفال وليبدأ تعليمه من جديد.
فيا صناع الجريمة إن حراكنا 99٪ من أفراده هم من الشباب جيل الثورة لا (جيل الوحدة) ومعظم هؤلاء من حملة الشهادات الجامعية وكم كنتم تعتقدونهم سنداً لوحدتكم لكنهم صاروا لأمتهم وهويتهم لأنهم يحملون دماء ألئك الرجال الذين أقصتهم وحدتكم من مناصبهم ومعايشهم ومن يشابه أبه فما ظلم ؛ ولن يكونوا أبداً بذلك الغباء الذي تتوهمون وإن دفعت أحدهم غيرة الانتقام فلن يكون من الأطفال وإنما من القتلة الحقيقيين وهم موجودون على بعد أمتار من منازلنا والوصول إليهم لا يكلف سوى لمحة نظر؛ ثم إن الجميع يعرف من هم قتلة النساء والأطفال , والتاريخ خير شاهد أن أبناء الجنوب لم يلجئوا إلى تلك الحقارة وهم في أوج صراعاتهم التي كانت تثيرها الأفكار السقيمة فقوموا بتنفيذ مسرحياتكم الهزلية بعيداً عن ساحاتنا ولا تجعلوا من أرضنا ميادين لتصفية ما لديكم من حسابات متراكمة عبر الزمن ولا نهاية لها ومن منكم أنسته تخمة المادة فليرجع للتاريخ عساه لرشدٍ يهتدي .