أبدعت أخي أبو عامر في موضوعك هذا واطهرت فيه قدراتك التحليلية وثراءك المعرفي الذي منحك بصيرة ثاقبة في فهم مجريات الحياة حال حركتها وسكونها ، ولست من الذين يمتدحون الأشخاص بما ليس فيهم ولا ممن ينقصون قدر الناس وقدراتهم مهما اختلفت معهم ، وأود أن أضيف توضيحا إلى ما تفضلت به في موضوعك ، وهو أنه يجب أن ننطلق في فهمنا لواقعنا الراهن من خلال عدة حقائق ومسلمات هي :
1)إن التاريخ هو ذاكرة الأمم والشعوب وكذلك الأفراد ولا يمكن لأحد أن يطلب من امة أو شعب أو شخص معين أن يتخلى عن ذاكرته أو يمحها(يفرمتها) خصوصا عندما تكون حياة ذلك الشخص قد شارفت على الانتهاء كما هو الحال مع القيادة التاريخية للجنوب ويجب أن نتفهم ذلك إلى أقصى مدى ..
2)إن وقائع التاريخ وأحداثه هي عبارة عن بناء تراكمي لا يمكن فصلها عن بعضها ، فكل واقعة هي نتيجة منطقية لما قبلها ومقدمة لما بعدها ، وان أي بناء خارج هذا التسلل الطبيعي للأحداث هو بناء شاذ لا يمكن أن يكتب له البقاء ولو بعد حين ، لهذا فإن الذين يريدون اليوم محو مرحلة ما بعد 1967م من الذاكرة الجنوبية يرتكبون نفس الخطأ الذي ارتكبه النظام السياسي الذي حكم في تلك المرحلة عندما عمل على محو تاريخ سلطانات ومشيخات الجنوب قبل تلك المرحلة فاخرج بذلك الجنوب من جذوره التاريخية وقاده إلى سوق الملح في صنعاء القديمة ، فالحقيقة أن مرحلة ما قبل 67م لن تعود ولا يمكن شطبها من الذاكرة الجنوبية وكذلك مرحلة ما قبل 90م لن تعود ولا يمكن شطبها من الذاكرة الجنوبية ومحاولة إعادة إحدى هاتين المرحلتين هو إعادة للماضي في أسوأ صوره ، والحل الصحيح هو إعادة الاعتبار للماضي القريب والبعيد وليس إعادة إنتاجه فشتان بين إعادة الاعتبار وبين إعادة الإنتاج للتاريخ ، فالأولى تتم من خلال تقيم الماضي بموضوعية وحياديه والاستفادة من عبره وأخطائه ومعالجتها والبناء على ايجابياته.
3) اتفق مع الكاتب بان هناك فكرين اعتنقتهما أو أثرا على فكر وسلوك النخبة السياسية التي قادت الثورة والدولة الجنوبية (1963م ــ 1990م) هما الفكر الاشتراكي والفكر القومي (القومية العربية) ، وقد اخفق وانتكس الأول وتلقى الثاني ضربات موجعه لم يستطع الإفاقة منها حتى اليوم وينظر أنصاره إلى الوحدة اليمنية بأنها بريق الأمل الوحيد لتدليل على صواب ذلك الفكر وإمكانية نجاحه مستقبلا ، ومن ثم فان التسليم بفشل تلك الوحدة يعد من ناحية ــ في نظر بعضهم ـــ آخر مسمار في نعش ذلك الفكر ومن ناحية أخرى يعد تسليما وإقرارا منهم بأنه ليس هناك أي جانب مشرق في تاريخهم وهذا يعني في المحصلة النهائية بأنهم كانوا في ظلال مبين ومحصلة كهذه من الصعب بنظرهم التسليم بها ، وباعتقادي فأنهم لا يلامون في ذلك لأن أي شخص لا يمكنه القبول بان يقال له في نهاية مشواره المضني بان كل ما قام به واعتقده طيلة ذلك المشوار كان جميعه خطأ وأن المشكلات القائمة بالواقع حاليا هي بسبب أخطائه تلك ، وبالفعل فهذا هو المطروح حاليا قبل القيادة التاريخية للجنوب ، وعلى الرغم من أن ذلك الطرح قد يبدو صائبا في كثير من جوانبه ، إلا أنه ليس صحيحا على إطلاقه ولو حتى في الكيفية التي يطرح فيها ، فالقومية العربية ــ مثلا ــ ليست وهما ولا فكرا شاذا وإنما حقيقة قائمة لها جذورها الحضارية والتاريخية ووجودها الجغرافي والثقافي بل والعقائدي أيضا ، وما تعرض له هذا الفكر من انتكاسات وفشل ليس لأن ذلك فكر خطأ في ذاته بل لأسباب أخرى خارجه عنه قد ترجع إلى أساليب تطبيقه على الواقع وغير ذلك ، ونفس القول يصدق على فكرة الوحدة أو التكامل العربي ، لذلك اعتقد بأن إعادة طرح أسباب القضية الجنوبية بشيء من العقلانية ممكن أن يخفف من حدة الهوة ما بين قيادة الجنوب التاريخية وهذه القضية ، فالقول ــ مثلا ــ بان ثورة أكتوبر انطلقت من صنعاء وان الجنوب احتلت من اليمن في 1967م وانه يجب استعادة دولة الجنوب العربي وليس دولة جمهورية اليمن الديمقراطية ... الخ فهذا الطرح ليس منطقيا من جانب ومن جانب آخر سيدخل الجنوبيين في نقاش وجدل عقيم ليس وقته حاليا بل وقت البحث عن نقاط الالتقاء والتوحد ولو في حدها الأدنى ..
3)ختاما فأنا مع رأي الكاتب بأن يترك للقيادة التاريخية للجنوب الخيار في تحديد وجهتها دون مناشدة أو توسل فإذا كان واقع حال الجنوب حاليا لم يحرك فيها دوافع الوطنية والانتماء لهذا الشعب للالتحاق بركبه ومسيرته صوب الهدف الذي اختاره وضحى ويضحي في سبيله ، فإذا لم يحركها ذلك فالأفضل لها البقاء في المكان الذي ارتضته لنفسها ، فقط يلزمنا ــ كما سبق ــ ترشيد طرحنا بشأن الماضي القريب والبعيد ليس لأجل تلك القيادة وحسب بل لأجل بناء مستقبل سليم من تشوهات الماضي .. ما نتمناه من الحرس القديم بأنه إذا كانوا غير قادرين على خدمة شعبهم وقضيته فلا يكونوا عامل تشتيت وتمزيق له بخلافاتهم الآتية من الماضي الذي نحاول أن نغفر لهم مآسيه ، فقد لاحظت مؤخرا بان (علي وعلي) الكبار يتبادلون الرسائل عبر بياناتهم ولقاءاتهما الصحفية الأخيرة ، بعد أن عجزا عن التواصل بينهما ربما لأن الشيخ سنان الذي يرعى مثل تلك اللقاءات على مرض الموت حاليا .. اللهم استر علينا من شياطين الجن والأنس واهدي كبراءنا إلى طريق الحق والرشاد .. للجميع خالص التحية