»أعمدة«
اليمن: حرب.. وحدة.. حرب!
نجيب الخنيزي

عانى اليمن (شماله وجنوبه) حالة من الفوضى وعدم الاستقرار من جراء الحروب الأهلية والمناطقية والحدودية، واستمرار التصفيات بين أجنحة الحكم المتصارعة، في ظل حال التشطير والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، السائد بين الغالبية الساحقة من الشعب، كما جرى تدمير المنجزات المادية (وهي متواضعة) التي تحققت بعرق وكدح أبنائه، واستنزاف الموارد الضخمة على القطاعات العسكرية والأمنية، مما أدى إلى تعطيل مسيرة التنمية والبناء، وعودة انبعاث وترسيخ الانتماءات (ما قبل الوطنية) الفرعية التقليدية من قبلية وطائفية ومناطقية. العلاقات بين اليمن الجنوبي والشمالي كانت على الدوام متوترة رغم الكثير من الاتفاقات الوحدوية التي لم تر النور، وذلك في أعقاب كل معركة طاحنة بينهما، وأشير هنا إلى اتفاقيتي الوحدة التي أعقبت حربي 1972 و,1979 والتي كان اليمن الجنوبي فيهما متفوقاً من الناحية العسكرية، كما احتضن القوات التابعة للجبهة الوطنية الديمقراطية القوية الحضور والنفوذ في الشمال. يستحضرني هنا جدل حاد (قبل ثلاثة عقود) اندلع بيني وبين بعض قادة الجبهة، حول ما اعتبرته مساسا بالوحدة الوطنية لبلادنا، بناء على تقييمهم لأوضاع تاريخية قديمة لبعض المناطق الجنوبية، رغم تغير الظروف والمعطيات والحقائق الموضوعية بعد تأسيس وتوحيد المملكة، بما في ذلك ترسخ المشاعر والارتباطات والمصالح الوطنية للسكان في مختلف المناطق في السعودية، الذين اندمجوا وتداخلوا اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، مع عدم إغفال ما يعتري الوضع الداخلي من اختلالات وتشوهات (لأسباب وعوامل مختلفة) من بينها العودة القوية للانتماءات والهويات (القبلية، المناطقية، المذهبية) الفرعية. هناك عوامل عدة سرعت بقيام الوحدة اليمنية في 22 مايو/ أيار ,1990 من بينها الضعف العام الذي عانى منه النظام والمجتمع في اليمن الجنوبي، من جراء استمرار الصراعات والاستقطابات الحادة الداخلية بين أجنحة الحزب والدولة، وخصوصاً في أعقاب أحداث 13 يناير/ كانون الثاني 1986 الدموية، حيث نزح الآلاف من أنصار الرئيس السابق علي ناصر محمد (غالبيتهم من الكوادر الحزبية والعسكرية) إلى اليمن الشمالي، كما لا يمكن تجاهل إفراز انهيار المعسكر الاشتراكي السابق، وتوقف الدعم السوفيتي القوي لليمن الجنوبي. إزاء الوحدة الاندماجية الشاملة بين الشمال والجنوب كان هناك بعض التحفظات من قبل بعض القيادات الجنوبية، حيث كانوا يطرحون أفكارا مغايرة مثل التدرج، المرحلة الانتقالية، الكونفدرالية، أو الفيدرالية، التي تحافظ على الخصائص السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية المتباينة بين الجنوب والشمال، غير أن فكرة الوحدة الاندماجية الكاملة انتصرت، وقد بادر إلى تحقيقها وصنعها القيادات اليمنية في الشمال والجنوب على حد سواء، كما حظيت الوحدة في البداية بالتفاف وتأييد وحماس شعبي واسع، باعتبارها الإطار السليم والصحيح لتجاوز حالة التشطير والانقسام والاحتراب، وإعادة التلاحم والاستقرار وبناء الوحدة الوطنية الراسخة، عبر تصفية احتكار الحزب أو الجيش للسلطة، والاستناد إلى التعددية السياسية، وإطلاق الحريات العامة وبناء دولة القانون والمؤسسات وترسيخ دعائم المجتمع المدني، ومكافحة مظاهر الفساد والتسيب الإداري والمالي، وإعادة تفعيل العملية التنموية من أجل رفع وتحسين مستوى حياة الشعب المعيشية والتعليمية والصحية، وعلى الصعيد الخارجي أعطي الاهتمام لتطبيع العلاقات مع دول مجلس التعاون والدول العربية والانفتاح على مختلف دول العالم.
تلك الأهداف والمشروعات الكبيرة التي علق عليها الشعب اليمني الكثير من الآمال أصيبت بانتكاسة خطيرة نتيجة استمرار المنافسة والمناكفة بين الأحزاب الرئيسية، وما اعتبره الحزب الاشتراكي (الشريك الثاني في صنع الوحدة) اليمني تهميشا له ولمناطق وأهل الجنوب في هياكل السلطة والاقتصاد والتنمية، في ضوء احتكار السلطة من قبل الرئيس اليمني وحاشيته، التي تتكون بالدرجة الأساسية من عائلته وقبيلته ومناصريه، تحت يافطة حزب المؤتمر. كل ذلك أدى إلى غياب روح الثقة والتعاون، بين القيادات اليمنية وبالتحديد بين الرئيس اليمني علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض، وبين حزب المؤتمر والحزب الاشتراكي الشريكين الرئيسيين في صنع الوحدة وفي السلطة، إلى جانب وجود عوامل ومسببات أخرى تتعلق باختلاف وتناقض التقييمات إزاء الكثير من القضايا والمشكلات الرئيسة المطروحة، وسبل معالجتها وعدم مراعاة المصالح والمكتسبات التي تحققت في الجنوب، وعدم تقدير الخصائص والاختلافات والحساسيات المناطقية والقبلية ذات الطابع الموضوعي والتاريخي، مما خلق رد فعل قوي لدى الشارع والنخب السياسية في الجنوب، التي شعرت بالتهميش والتمييز والإقصاء. وقد أدى فشل تطبيق وثيقة العهد المبرمة في العاصمة الأردنية (عمان) في فبراير/ شباط 1994 بين الحزب الاشتراكي وحزب المؤتمر، إلى انفجار الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في 27 أبريل/ نيسان 1994م، وعلى نحو أشد ضراوة ودموية حيث خلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمنفيين، إلى جانب الخسائر المادية التي قدرت بأكثر من عشرة مليارات دولار. مع أن الحرب توقفت، وانتصر خيار الوحدة عن طريق القوة والحسم العسكري من الشمال، غير أن الجراح والمآسي والإفرازات التي خلفتها تلك الحرب ظلت ولا تزال ماثلة وقوية وخصوصاً في الجنوب.