مشاهدة النسخة كاملة : "دفاتر الأيام " تنشر حلقات عن سبعينيات (عدن ) عاصمة الجنوب العربي .
عبدالله البلعسي
2012-03-24, 02:19 PM
"دفاتر الأيام " كما يرويها الكاتب فضل النقيب رحمه الله .
احتراماً وتقديراً لهذا الكاتب لما قدمه للوطن في الجانب الاعلامي وغيرها من الجوانب الثقافيه سنقوم بنشر حلقات عن ما كتبه المرحوم من مواضيع تتعلق في سبعينيات عدن .
(الكتابة سجن الكاتب والحروف قيوده وأصفاده والأفكارهي الأشباح التي تحيط به في زنزانته وليس له منها فكاك لأنها تجري منه مجرى الدم (فضل النقيب)
كان ذلك في عام 1970 وكنت قد تخرّجت جامعة القاهرة قبل أشهرٍ قليلة تحدوني الآمال العريضة في المستقبل، ولم أكن أعلم أن وراء الأكمة ما وراءها، وأنني في الصّيف ضيّعت اللبن، وإن سفر العودة إلى عدن سيضعني في مثل موقف أحمد الصافي النجفي عندما عاد إلى بغداد أعمى فهتف: يا عودة للدار ما أقساها.. أسمع بغداد ولا أراها.
ذلك أنه يوم الإعلان نتيجة التخرّج في صيف 1969، وأظن ذلك كان في شهر أغسطس، أجرت معي زميلتي المصرية (ماجدة موريس) حديثاً قصيراً نشر مع صورتي أسفل الصفحة الأولى من جريدة الجمهورية القاهرية تحت عنوان: (الأول على قسم الصحافة من اليمن) وكنت فخوراً بذلك أحمل الشهادة بيد والجريدة باليد الأخرى، ولم أكن أعلم أنني بذلك كمن يحفر لنفسه حفرة بيديه.
سألتني الزميلة التي أصبحت اليوم صحفية مرموقة في حقل النقد السينمائي بجريدة (الجمهورية) ضمن الأسئلة: بمن تأثرت من المفكرين؟ فأجبتها ببراءة: بعباس محمود العقاد وخاصة عبقرياته الإسلامية.
ما كنت أدري أو أقدّر مدى ردّ الفعل في عدن على جملة مثل تلك، فهناك كانت تلمع في السماء نجومٌ أخرى، وحين وصلت بالطائرة إلى مطار عدن الدولي أسرّ في أذني صديقي الذي استقبلني: "كان لازم تجيب سيرة العقاد" وماذا في ذلك؟ يا أخي الجماعة حاملين السلم بالعرض، وقد قرؤوا الشيوعية من الصفحة الأخيرة، فمنهم من يباري لينين ومنهم من يناطح ماوتسي تونج. قلت: وما العمل؟ قال: "قل يا هادي"، قلت: "يا هادي".
ومضت الأشهر بطيئة متثاقلة وأبواب العمل مغلقة في وجهي حتى كان ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى وزير التربية عبدالله عبدالرزاق باذيب، أشكو إليه وضعي وكان ماركسياً أصولياً قرأ الكتاب من الصفحة الأولى، وكان معتدلاً وفي سن النضج، وقد استقبلني بترحاب وقال: اعتبر نفسك تعيّنت مدرساً فهذه حدودي، ولكن اسمح لي قبل ذلك بمكالمة تليفونية، اتصل بجهة ما، وسأل بحضوري: هل هناك اعتراض على تعيين فلان؟ لا أدري بماذا أجاب الطرف الآخر، ولكن الأستاذ باذيب انطلق يقهقه بملء صوته وهو يعلق دون أن ينظر إليّ: فليمدد الحجاج رجليه، ثم نظر إليّ قائلاً بفخامة، أخي، داوم غداً صباحاً في كلية عدن.
ذهبت إلى كلية عدن فاستقبلني العميد عبدالوهاب عبدالباري وهو من أخف خلق الله دماً وأشدهم سخرية، فأخذني في جولة في الكلية وخلفنا تسير ست من الأغنام، سألته عنها فأجابني: "يا ابني افهمها، تربية الأغنام أفضل من تربية هذا الجيل الطالح" ثم أخذ يقهقه وهو يربت على الأغنام ويقول لي: شوف الوفاء والمحبة والطيبة في عيونها، أنصحك لا تعلم الطلبة أي شيء، قلت: وماذا أعمل؟ أجاب: أنا وانت وجميع المدرسين نشتغل سجانين لأن هؤلاء لو خرجوا إما أن يذهبوا إلى (السيسبان) – منطقة مشبوهة بجانب الكلية- وإما أن ينقلبوا ثوار في الشارع فتضيع عليهم الدنيا والآخرة.
عبدالله البلعسي
2012-03-24, 02:24 PM
عنم العميد
لم يكن السفر مع عميد كليّة عدن عبدالوهاب عبدالباري هيناً ولا مأموناً، فالرجل (مسحوب من لسانه) وإذا ضرب (الفيوز) في رأسه ممكن يخليها ظلمه على نفسه وعلى من حواليه، وقد أخذت أجتهد في تحضير دروس الفلسفة والمنطق وعلم النفس وتقريبها إلى أذهان الطلاب الذين كانوا يقاربونني سناً وكنت أحثّهم على أن يسألوا لنفكر سويةً بصوتٍ مسموع، وشعرت في وقت من الأوقات، أنهم أصبحوا جزءاً مني وأنني أصبحت جزءاً منهم، كما تلمست قلقهم إلى المعرفة والفهم بسبب المحيط المتلاطم حولهم. فقد كان المنهج الدراسي في واد وما يجري في الشارع ويقال في أجهزة الإعلام في وادٍ آخر.
وقد استمرّ العميد في محاولاته لاقناعي بأنني أحرث في شاطئ البحر، وأنه لا فائدة ترجى من وراء أي تعليم وكثيراً ما كان يحضر إلى الصف لإخراجي أثناء الحصة بمختلف الحجج، وكان الطلاب ما أن يحضر حتى يضجوا بالضحك فيشير إليهم بعصا قائلاً: آه منكم يا ملاعين، المستقبل أمامكم أسود. وكان واضحاً أن الطلاب أنسوا إلى عميدهم بل وأحبوه وكانت تعليقاته اللاذعة تنتقل على ألسنتهم إلى كل مكان في المدينة، وقد عبر الكثيرون منهم عن حبهم وتقرّبهم منه باحضار ما تيسّر من بقايا الخبز والأعلاف لغنم العميد التي أخذت تسرح وتمرح في الكلية ثم تمادت فأصبحت تدخل إلى الصفوف تبترد وهي تحاول قضم أحذية الطلاب البالية وأطراف ملابسهم الرثة، وقد أثبتت الأغنام موهبتها الطبيعية في امتصاص القلق وإشاعة البهجة والتعايش مع البشر.
وهكذا أخذت الكلفة ترتفع بين العميد والطلاب، فتراه أثناء الفسحة وقد خرج من مكتبه إلى الساحة يسير مع هذا الطالب أو ذاك، وقد حط كلاهما ذراعه على كتف الآخر، بينما طالب آخر يصيح من بعيد، يا أستاذ عبدالوهاب.. ما هو الفرق بين الفئة السياسية الفلانية والفئة العلانية؟ (لا داعي لذكر الأسماء) فيجيبه العميد: مافيش فرق يا غبي بس (هاذولا) يسرقون في النهار و (ذولاك) يسرقون في الليل، ويعقب، شوف الفرق العظيم يا خايب.
عبدالوهاب عبدالباري أحمد ألمع خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت وعلى قدر كبير من الذكاء واللماحية، وربما كان ذلك وراء نظرته السوداوية للناس والأيام، كأنما رائده في ذلك أبوالطيب المتنبي القائل: ومن عرف الأيام معرفتي بها، وبالناس روى رمحه غير راحم. وكان يشعر بمرارة شديدة تجاه كل ما يرى ويسمع، وحين كنت أسأله كان يقول لي: "الله يخليك لا تخلي العقارب والثعابين تخرج من فمي، شوف السم الناقع على الطرف لساني" وإلى الغد.
عبدالله البلعسي
2012-03-24, 02:29 PM
معركة بالأسنان والأيدي (3/58) (http://alnageeb.maktoobblog.com/270447/%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%8a%d8%af%d9%8a-358/)
كان الأستاذ عبدالوهاب عبدالباري يخوض معارك كثيرة ومتعددة الجبهات، القليل منها حقيقي أما أكثرها فوهمي، ما كان أشبهه بـ (دونكيشوت) وهو يحارب طواحين الهواء معتقداً أنها فرسان الأعداء وجحافلهم الداهمة.
كان لعميدنا جسمٌ طويلٌ مستدق بسمرة محروقة، وصلعة مستوية لم يبق فيها سوى شعيرات معدودة، وعينان زائغتان مليئتان بالشك وعدم اليقين، ولم يكن لينسى أبداً أنه ذلك الخريج اللامع الذي وصل إلى وظيفته بمواهبه واجتهاده، لذلك كان على الدوام متحفزاً لتفنيد ودحر أي كلام، وإثبات جهل صاحبه، وإذا لزم الأمر تسفيهه وفضحه علناً، لذلك يمكنني أن أؤكد بكل ثقة أنه كان موسوعة في مثالب ومعايب منافسيه وأعدائه.
كنت لتوي قد أنجزت مصالحة تاريخية بين العميد والشاعر الكبير عبدالرحمن فخري الذي كان هو الآخر يرى نفسه نصف الدنيا بقامته العملاقة العريضة ولونه الأبنوسي، وعيونه (المفنجنه) وصوته الجهوري الفخيم الذي يمكنه بواسطته السيطرة على جمهور في ملعب كرة القدم, وكان الاثنان العميد والخفري قد ذهبا لتمثيل اليمن في مؤتمر سياسي عقد في بيروت ودار نقاش حول الديمقراطية في اليمن فما كان من العميد سوى المبادرة للرد المفحم قائلاً: إن اليمن هو أعظم بلد ديمقراطي في العالم والدليل على ذلك أننا بعثنا (عبداً) يمثلنا مشيراً إلى صاحبه الفخري، فما كان من الأخير إلا انقض عليه كما ينقض الصقر على فريسته، وهكذا تحولت ساحة المؤتمر إلى ميدان معركة بالأسنان والأيدي والكراسي وما تيسر على المائدة من كاسات ومنافض سجاير ودوارق مياه.
وهل يصح هذا يا سيادة العميد؟ يا أخي النكتة حبكت، وأنت تعرفني ما أقدر أقاوم، ثم من يكون الفخري؟ وعلى كل حال، كل واحد عرف صاحبه.
وما هي إلا أيام قليلة عقب المصالحة التاريخية حتى انقض العميد بدون مسوغ قوي اللهم إلا مماحكات طائرة في الهواء على أستاذ الجيل وصاحب أكبر مكتبة شخصية في عدن الأستاذ عبدالله فاضل فارع، وصفاً إياه بأننه (عبدالله فاضي فارغ) وأنه لو قرأ فقط عناوين الكتب التي في بيته لكان قد أصبح أكبر مثقف في الوطن العربي. وهكذا نشبت معركة أكبر من سابقتها…
فإلى الغد.
bakre
2012-03-24, 02:43 PM
الله يهديك يا بلعسي وينك من زمان ما نقلت لنا ذرر الكاتب فضل علية رحمة الله ويغفر لة ذنوبة , والله ضحكت من قلبي على ديمقراطية اليمن وترشيح العبيد ههههههههههه
ربنا يعطيك العافية
العياشي اليافعي
2012-03-24, 05:57 PM
رحمة الله عليك يا فضل النقيب عاش مشرد بسبب الحزب الماركسي لاكنه لم ينسىء وطنه وضل الوطن في قلبه يحمله اين ما ارتحل لقد فقدت الجنوب العربي عامه ويافع قبيلة الفقيد خاصه واحداً من اعلامها البارزين الذي سوف يذكرهم التاريخ مع مرور الزمن
عبدالله البلعسي
2012-03-25, 12:07 AM
نكد الدنيا (4/58) (http://alnageeb.maktoobblog.com/270450/%d9%86%d9%83%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%86%d9%8a%d8%a7-458/)
هجوم العميد عبدالوهاب عبدالباري على أستاذ الجيل وصاحب أكبر مكتبة شخصية في مدينة عدن عبدالله فاضل فارع ووصفه له بأنه (عبدالله فاضي فارغ) وبأنه لو قرأ عناوين الكتب التي احتلت جميع غرف فيلته الفسيحة في منطقة (خور مكسر) على البحر لكان قد أصبح أكبر مثقف في الوطن العربي، أثار لغطاً كبيراً في الأوساط الثقافية وعلامات استفهام كبرى.
ضرب المثقفون أخماساً في أسداس واستخدموا جميع مناهج التأويل والتحليل لمعرفة دوافع وأهداف هذا الهجوم الصاعق غير المتوقع، ذلك أن عبدالله فاضل ليس بالطير الذي يؤكل لحمه، بقامته القصيرة العريضة المكتنزة كأنه (صخرة الوادي) التي تتحطم فوقها أقوى السيول، كما أنه صاحب مكانة اجتماعية مرموقة حتى أن الرئيس سالم ربيع علي كان يزوره في منزله ويستشيره في الكثير من الأمور.
وقبل ذلك وبعده، فما عرف عن عبدالله فاضل تهيبه لمعركة، فهو السباق دائماً بإذكاء نيران المعارك بلسانٍ قطّاع وجنان ثابت ورغبة أكيدة في النزال والعراك تصل إلى حد التولّه والاستهانة بالخطر، وإذا كان العميد يحاول خدش الصخر بأظافره فإن عبدالله فاضل يحفر الحفرة العميقة لا يرى لها قرار.
إذا هل هناك جهة وراء العميد، فقد كنا في زمن لا يعرف مقتول من قتله، ولماذا قتله، سألت عبدالوهاب عبدالباري بحكم العلاقة الحميمة التي أصبحت تربطني به فأجاب: هل تصدق بالله أنني أكن لهذا الرجل كل الإعجاب وأعرف مكانته العلمية والثقافية وليس بيني وبينه شيء، ولكنني مررت بحالة من الغضب الحارق والسخط الماحق على نفسي وعلى كل من حولي فرغبت في أن أنشب أظافري في أي رقبة سمينة واستعرضت أسماء كثيرة فلم أجدها في مقامي.. تستطيع أن تقول أنني عبّرت عن الحب بطريقة معكوسة.
حين رويت هذا الحوار في مجلس عبدالله فاضل الذي يؤمه جمع كبير من المثقفين كنت كمن دلق برميل ماء بارد على نارٍ مشتعله، فقد تنفس الجميع الصعداء وإن كان بعضهم قد عاتبني لاحقاً لأنهم كانوا يتشوقون إلى معركة حامية (تكسر هذا الملل، وتكنس هذا السأم).
أما عبدالله فاضل فابتسم وهو يردد: ومن نكد الدنيا،.. وهكذا أنجزت مصالحة تاريخية ثانية بعد المصالحة مع الشاعر الفخري.
لقد هدأ العميد يوماً أو يمين، ثم قرر في لحظة تجلّي أن يشنّ هجوماً كاسحاً على أكبر رأس في وزارة التربية والتعليم، فإلى الغد.
عبدالله البلعسي
2012-03-25, 12:08 AM
يا قاتل يا مقتول (5/58) (http://alnageeb.maktoobblog.com/270453/%d9%8a%d8%a7-%d9%82%d8%a7%d8%aa%d9%84-%d9%8a%d8%a7-%d9%85%d9%82%d8%aa%d9%88%d9%84-558/)
كان نائب العميد في كلية عدن هو أبوبكر عبدالرزاق باذيب، الأخ الأصغر لوزير التربية والتعليم آنذاك، وهو رجل يشبه تلك الصناديق الخشبية السميكة التي كانت تستورد من الهند للعرسان الجدد، والتي مهما قرعت ظاهرها فلن تستطيع أن تعرف ما بداخلها، أما العميد عبدالوهاب عبدالباري الذي كان يتحرّق شوقاً لمعركة تكنس الضيق والملل، فقد كان يشبّه نائبه بالقنفذ، ويعجب لذلك السياج الشوكي الذي استعصى على كل مناوراته واستفزازاته وتوقه لمعرفة ما يدور في رأس نائبه، وكان يقول لي: المشكلة أن لسانه لا ينطق وعيونه لا تكف عن التهديد، "إلاّ أطيح فيه يوم من الأيام يا قاتل يا مقتول".
وبينما كان العميد يفكر في تلك الأحجية العويصة وهو يذرع ساحة المدرسة ذهاباً وإياباً والأغنام ترافقه كأنها حرس مسؤول كبير إذا بزوبعة مفاجئة تهب على الكلية فقد توقفت أمام باب الكلية حوالي عشر سيارات (بيك أب) مكتظة بطلاب قادمين من محافظة (أبين) يطلبون تسجيلهم للدراسة والسكن الداخلي في الكلية.. هل قلت يطلبون؟ إنهم يأمرون وعيونهم تلمع بالتهديد والوعيد، فقد كان الرئيس سالم ربيع علي قد أطلق عنان هذه القوّة الكاسحة وأصبح من حقهم إلقاء القبض على أي واحد يشتبهون بأنه (ثورة مضادة) وتكوين محاكم ثورية ميدانية وإصدار أحكام وتنفيذها.. الخ.
لمعت عينا العميد بفرحٍ عجيب غريب وهو ينظر إلى نائبه القادم يحجل من مكتبه وهمس في أذني، جاك الموت يا تارك الصلاة، ثم تنحنح واتكأ على عصاه فرحب بالطلاب معلناً أن يوم المنى والسعد هو يوم التحاقهم بالكلّية… فقط… عليهم أن يكلفوا خاطرهم ويذهبوا في مشوار بسيط إلى مكتب الوزير لجلب موافقة خطية.
وفيما كان الطلبة يتأهبون كان العميد يمرق بسيارته كالسهم وأنا معه عبر طرق جانبيه وصولاً إلى مكتب الوزير حيث أبلغه أن الكليّة لا تستطيع استيعاب طالب إضافي واحد وأن مثل ذلك الأمر لو حدث فسيقدم استقالته. طمأنه الوزير مؤكداً أن ذلك لن يحصل أبداً، ولم يكن الوزير يعلم شيئاً عن زوبعة الطلاب – الثوار التي أطبقت على الوزارة بعد دقائق من خروجنا- فإلى الغد.
عبدالله البلعسي
2012-03-25, 12:09 AM
لا يموت الذئب .. ولا تفنى الغنم (6/58) (http://alnageeb.maktoobblog.com/270454/%d9%84%d8%a7-%d9%8a%d9%85%d9%88%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d8%a6%d8%a8-%d9%88%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d9%81%d9%86%d9%89-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%86%d9%85-658/)
خرجت أنا والعميد عبدالوهاب عبدالباري من مكتب وزير التربية والتعليم في (مدينة الشعب) حيث قرر العميد أن نلتف من الخلف عبر دغل الأشجار التي لم يشذبها أحد منذ سنوات لنتجنب لقاء الطلاب – الثوار – وما قد ينتج عن مثل ذلك اللقاء من حوادث لا يحمد عقباها.
حين رآني ابتسم قال لي: "هاه، الخطة محكمة"، قلت له: لا أنا في وادي وانت في وادي آخر، رويت له أنني التقيت الرئيس علي ناصر محمد عام 68، مختبياً في ظل تلك الشجرة (وأشرت إليها) وحيداً ساهماً، متفكراً وكان قدم استقالته كمحافظ للحج فتبرأ من السلطة ولخم يصعد إلى الجبل مع رفاقه اليساريين الثائرين على قحطان الشعبي، فتبرأ منهم، وتستطيع أن تقول العكس أنه تقرب من رفاقه بالاستقالة واقترب من السلطة بعدم الصعود إلى الجبل، وقد سألت علي ناصر وهو غارق في حبوته، ما رأيك في أصحاب الجبل؟ فانتفض وهو يقول لي: عملاء.. عملاء، قلت له: أم أنها الثورة تأكل أبنائها، ومضيت (كانت إجابته بالون اختبار لغرضي من السؤال) لأنه ما لبث أن لحق بي ليقول لي بصوت هامس، إذا التقيت أحداً منهم في يافع فبلغهم تحياتي، وقل لهم إننا رفاق درب واحد ومصير واحد. قلت للعميد: وأظن أن هذه الشجرة المباركة هي التي أوحت لعلي ناصر بفكرة الوسطية وسياسة: لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم، وهي السياسة التي جعلت منه شوكة الميزان في صراع الأضداد على امتداد عقد ونيف من السنين العاصفة.
قلت للعميد: أملى أن تجد شجرتك المباركة، فتجنح إلى السلم والاعتدال، أجابني بصوت كله استنكار: أنا.. الله يسامحك، والله ما يبرد قلبي إلا إذا تكسّرت النصال على النصال.
مقابل وزارة التربية عبر الشاعر الرئيسي القادم من (عدن الصغرى) باتجاه (جولة كالتكس) حيث مفترق طرق (عدن – الشيخ عثمان) توجد غابة أشجار (الطاري) في منطقة (الحسوة) وهي أشجار عجيبة يتم جرحها بسكين فتفرز عصارة لبنية بيضاء حلوة لا تلبث أن تتفاعل مع الجو، فتتحول إلى خل صاف خلال فترة يوم أو يومين. هناك قرر العميد أن ننيخ ركابنا ونقيم معسكرنا لمراقبة الموقف على الطبيعة، وكان من عادة العميد أن يحمل معه في حقيبة السيارة كيساً كبيراً من الفحم وجالوناً من البنزين وكمية كبيرة من التبغ الخام إضافة إلى (مداعة) (أرجيلة) يمنية، وقد قام بإشعال النار وتعمير (البوري) وأخذ يقرقر بسلام وعيناه تمسحان مداخل ومخارج الوزارة بانتظار العاصفة.
سألته عن الخطة.. فأجاب: ليس الآن، هذا وقت العمل لا الكلام.
فإلى الغد.
عبدالله البلعسي
2012-03-25, 12:11 AM
حكمة الإمام ومقالب العميد (7/58) (http://alnageeb.maktoobblog.com/270460/%d8%ad%d9%83%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%85%d8%a7%d9%85-%d9%88%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%84%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%85%d9%8a%d8%af-758/)
عندما سألت عميد كلية عدن عبدالوهاب عبدالباري عن خطته للإيقاع بين الطلبة الثائرين ووزير التربية والتعليم آنذاك عبدالله عبدالرزاق باذيب فأجابني: "هذا وقت للعمل وليس للكلام…" أدركت أنه لا خطة ولا يحزنون، إن هي إلاّ رمية طائشة من رميات العميد إن (صابت صابت، وإن خابت خابت).
وحين ألححت عليه روى لي ما أطلق عليه (الحكمة الذهبية) لإمام اليمن الراحل أحمد بن يحيى حميد الدين حين كانت تصله أنباء القتال بين قبيلتين، فيهزه الطرب والإنشراح وهو يرد على من يطالبه بالتدخل لفض الاشتباك وإصلاح ذات البين: "ناب كلب في راس كلب".
وروى لي العميد أيضاً مقلباً من مقالبه الظريفه كان قد دبجه قبل أيام لنائبه الذي لا يطيقه أبوبكر عبدالرزاق باذيب حيث صدف أن التقيا في أحد (مقايل) القات التي يرتادها السياسيون، ويكون الكلام فيها من الوزن الثقيل، وكان بجانب العميد أحد المناضلين القادمين من الريف حديثاً والذي لا يعرف أكثر الموجودين في (المقيل) فلما سأل العميد عن شخصية نائبه ردّ عليه بأنه (الفنان الكبير محمد عبده زيدي) مستغلاً تشابه السمات الشكلية، وكون الاثنين مصابين بشلل الأطفال.
وأخذ صاحبنا المناضل القادم من الريف كلما اشتد وحمي وطيس الجدل يتدخل بقوله: "بالله عليكم يا إخوان خلونا نسمع كم أغنية من الزيدي…" وفيما أبوبكر باذيب يتميز من الغيظ ويكاد ينفجر معتقداً أن وراء ذلك مؤامرة سياسية للعبث به يكون العميد قد خرج من المقيل إلى الشارع ليضحك على راحته، وخوفاً من أن يشرق بالقات إذا كظم فرحته وسط الناس وقد يروح فيها (فطيس).
المهم أن باذيب بعد المرة الخامسة من "خلونا نسمع الزيدي… الله يعطيكم العافية" أخذ ربطة القات ورماها في وجه المناضل القادم من الريف وغادر المقيل ثائراً وسط قهقهات الموجودين دون أن يعلم أن العميد وراء القصة.
المهم أن العميد دفع الثمن لفشل (الخطة المحكمة) فجرى نقله إلى ثانوية (خور مكسر) بينما رقّي نائبه إلى عمادة كلية عدن، ولم أعد أرى العميد (الأصلي) إلا على فترات متباعدة. ولم أبق في كلية عدن سوى فترة قصيرة نقلت إثرها إلى الإذاعة… وكنت كلما مررت بجانب الكلية أبتسم وأنا أقول: "الله يذكرك بالخير يا عبدالوهاب عبدالباري".
عبدالله البلعسي
2012-03-25, 12:12 AM
نجوم الإذاعة (9/58) (http://alnageeb.maktoobblog.com/270463/%d9%86%d8%ac%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b0%d8%a7%d8%b9%d8%a9-958/)
كانت إذاعة عدن عام 1971 حلبة فريدة من نوعها، تجري فيها مباريات الملاكمات الإدارية والوظيفية فيها بقبضات حديدية مغطاة بقفازات حريرية، وكانت صورة للوضع في البلد كما كان وكما هو كائن وكما سيكون، فلكل مرحلة من هذه المراحل ممثلوها الذين سيرحلون أو الذين سيتشبثون بصواري وأعمدة السفينة المترجرجة فوق الأمواج، إضافة إلى أولئك الذين يكمنون في الأروقة والمنعطفات والزوايا المظلمة في انتظار البلاغ رقم (1) ليسيطروا بعدها على الأجهزة والميكرفونات والملفات.
وفيما كانت حالة الأجهزة تتدهور وتتداعى لضعف الصيانة وانتهاء الصلاحية، كانت الطموحات تستعر وتشتد لدى البعض متزامنة مع عمق الإحباط وقتامة الاستشراف لدى البعض الآخر.
(علوي السقاف) الذي كان والده قاضياً مشهوراً في دبي عزل نفسه، وقد نذر ألا يكلم الدهر إنسيا رغم أنه كادر مخضرم مشهود له بالكفاءة فنياً وتحريرياً وإدارياً، وكنت كلما حدثته عن أحوال ركاب السفينة وأهوال تقلبات البحر المنذر لا يزيد عن القول: "لا أذود الطير عن شجرٍ… قد بلوت المرّ من ثمره".
(خالد محيرز) الإداري الممتاز الجاهز على الدوام للعمل الصبور، الدؤوب على مدار الساعة، هرب من المعمعة إلى مشروع روسي لتقوية الإرسال في منطقة (الحسوة) وعندما تحدثه يشير إليك بحكمة القرود الثلاثة: (لا أرى، لا أسمع، لا أتكم) وطبعاً دون أن يتكلّم.
(جمال الخطيب) المجابه المعتمر بنفسه، انتهى قتيلاً، وزميله عبدالرحمن بلجون، الرقيق، الخفيف الظل، انتهى كذلك قتيلاً…وهكذا…وهكذا… ومن لم يمت بالسيف مات بغيره… تعددت الأسباب والموت واحد.
ضابطات الصوت اللواتي صرفت عليهم الإذاعة (دم قلبها) قررن أن يكن مذيعات، فكان لهن ما أردن، فتنحّت المذيعات المعتمدات لضابطات الصوت، وجاءت كوادر جديدة لضبط الصوت تتدرب على الأجهزة العتيقة.
في هذا الجو التحقت بالإذاعة ولم أكن من أهل الثقة والحكم فأسند ظهري إلى جدارٍ رقيق، كما أنني لم أكن من أهل الخبرة، فأتكئ إلى علمٍ عريق، حيا الله… مجرّد خريج جديد لا يودّي ولا يجيب.
لذلك كان من حق المذيعة النجمة (القرفانه) فوزية غانم أن تقفز في وجهي محذرة ومنذرة، كما أشرت بالأمس، وكان من حق الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة أن يضحك من (وقعتي) حتى يستلقي على قفاه. وعلى كل حال، فرب ضارة نافعة، فقد أصبحنا أصدقاء، وحين دعتنا فوزية ذات يوم للغداء أنا والجرادة في منزلها، لاحظت سطوتها المخيفة في البيت، حتى لتشعر أن الفناجين والصحون والسكاكين ترتعد من الخوف، وهذه صفة غالبة في نساء عدن، لذلك عندما قال لي صديقي الجزائري (بده مكي) الموظف في وزارة الإعلام في أبوظبي أن هناك مثلاً جزائرياً يقول: "من لم يؤدبه الزمن، أدّبته نساء اليمن" صححت له بالقول: "نساء عدن" وقد قفزت إلى ذهني (عمتي فوزية) التي أصبحت تتقبل الكنية بصدر رحب وقلب مفتوح.
عبدالله البلعسي
2012-03-25, 12:13 AM
هذا عمر الجاوي (10/58) (http://alnageeb.maktoobblog.com/270467/%d9%87%d8%b0%d8%a7-%d8%b9%d9%85%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a7%d9%88%d9%8a-1058/)
صباح مدينة عدن لا يشبهه أي صباح آخر في الدنيا، فالمدينة المكونة من (كريتر) و (المعلا) و (التواهي) كتلة حجرية هائلة من جبال بركانية ضخمة، حملت برافعة آلهية، ووضعت في قلب الماء (جزيرة أو شبه جزيرة)، وأمامها أراضي سبخة تحتوي (ملاّحات) بمرواح عملاقة يتلامع الملح فيها تحت ضربات الضوء الأولى، وخلف الملاّحات صحراء موحشة تأنس بها لمصاحبتها (سيف البحر) حتى (أبين) أو تخترق كثبانها حتى (لحج) حيث يوجد واديان من أخصب وديان اليمن.
أما سكان المدينة فيدبون في (فوهة البركان) في (كريتر) حيث القاع العميق، أو (يتشعلقون) بمنحدرات الجبال في (المعلا) و (التواهي).
لذلك فإن للصباح رائحة البحر وأنفاس الملاحات وهبات الجبال الكبريتية، وأنسام الصحراء النقبية، وتلك الزخات العطرية التي ترسلها دلتا (أبين) ودلتا (لحج) هدية لتلك المدينة الدهرية التي عمرها من عمر الزمن.
يضاف إلى ذلك الحالة المعنوية للناس في رخائهم وشقائهم، في أمنهم وخوفهم، ولم تكن تلك الأيام التي نتحدث عنتها آمنة من خوف ولا مطعمة من جوع، لذلك فإن أنفاس الصباح لم تكن تخلو من قسوة المعاناة.
ذلك الصباح الاستثنائي كان مختلفاً، فقد هبط على متن سفينتنا (الإذاعة والتلفزيون) التي كانت تترنح تحت القصف والقصف المضاد للنفوس المتنمرة والأرواح المتوثبة، والمصالح المتقاطعة، نورس بالغ الجمال وربان مقاتل من الطراز الأوّل، هو (عمر الجاوي) الذي عيّن مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون، ولم يكن من الحزب الحاكم، كما لم يكن موظفاً عاماً يمكن أن يؤمر فيأتمر، لذلك فقد هيّأ مسرح القتال منذ لحة هبوطه، ولم نعرف معه طعم الراحة أبداً، ولكننا عرفنا مجد التحدي وتعلمنا فنون الاقتحام… تقول له: هذا جبل يا عمر، فيقول لك: عيب، حد نظرك.. انا ابن عبدالله، هذه غيمة هشة دق راسك براسها، وحين تعود إليه بدمّك يقول لك: "هكذا الرجال، ذي ما يكسر ظهرك، يقوّيك".
عمر الجاوي الذي درس في طنطا وموسكو، وكان زعيماً طلابياً بارزاً وأحد أبرز قادة الدفاع عن صنعاء في حصار السبعين يوماً، كان رجلاً قصير القامة برأس أصلع وعينين مغناطيسيتين جاحظتين، وصوت جليل حين يتكل بأداء موسيقي أخاذ مطرز بالشعر والحكم والأمثال الشعبية، كان يسارياً باللسان، شعبياً تراثياً بالوجدان، إنسانيا في الأعمال، إنه بالضبط الذي عناه الشاعر بقوله: ترى الرجل النحيف فتزدريه / وفي أثوابه أسدٌ هصور.
قام الجاوي دون الرجوع إلى الوزير والوزارة بتشكيل مجلس للإذاعة والتلفزيون، وعيّنني نائباً له ومديراً للإذاعة (دون معرفة سابقة، ودون استحقاقات مالية) وكان أول قرار اتخذه حرمان نفسه من راتب المدير العام، والتنازل عن صلاحياته المالية للمسؤول المالي (عيب نوسّخ أنفسنا بالفلوس) ثم اقذفوا بكتّاب التقارير ولصوص المهنة في الشارع، فإن لم تستطيعوا فأقفلوا عليهم في الغرف الخلفية المظلمة…
وهكذا دخلت مع عمر الجاوي في نفق لم أكن أعرف ما ينتظرني فيه، ولكنه كان مليئاً بالإثارة والتحديّ والكبرياء، فإذا كنت مع (العميد) في قلب زوبعة، فإنني مع (الجاوي) على جناح عاصفة لا تهدأ ليل نهار.
عبدالله البلعسي
2012-03-26, 01:22 PM
هكذا .. عمر الجاوي (11/58) (http://alnageeb.maktoobblog.com/270469/%d9%87%d9%83%d8%b0%d8%a7-%d8%b9%d9%85%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a7%d9%88%d9%8a-1158/)
في أول اجتماع للمجلس الجديد للإذاعة والتلفزيون بعدن والذي ذكرت بالأمس أن (عمر الجاوي) شكّله دون الرجوع إلى وزير الإعلام آنذاك (عبدالله الخامري) ودون أن يحفل قليلاً أو كثيراً باللوائح، تمكن عضوا المجلس (علوي السقاف) و (خالد محيرز) من إقناع عمر بعدم التنازل عن صلاحياته المالية لأن (المال عصب العمل، وأهم سلاح في يد المدير العام) وكذلك فيما يتعلق براتبه (فلك الحق أن تتبرع به أو تفعل به ما تشاء ولكن ينبغي أن تقبض الراتب وحسب الأصول).
خلال الاجتماع جاءنا من يقول أن الملحق الثقافي في سفارة ألمانيا الديمقراطية ينتظر مقابلة المدير العام، فإذا بالجاوي يقفز مثل (الجني) إلى الباب ليمنعه من الدخول، كيف سمحت لنفسك أن تأتي بلا موعد؟ ثم ما هذه الأشرطة التي تحملها؟ شرح الألماني تحت وقع الصدمة والمفاجأة أنه مرسل من مكتب الوزير، وهذه الأشرطة التلفزيونية هي لتعليم اللغة الألمانية بناء على اتفاق موقع على أعلى المستويات….
خرج الجاوي عن طوره وطلب من أحد الموجودين إخراج الأشرطة خارج الغرفة: "دعني ألقن هذا الخبير درساً، يا حضرة الملحق الألماني، إن شعبنا يرغب في أن يتعلم لغته العربية الفصحى، ونحن في سبيل الإعداد لذلك على أشرطة مثل أشرطتك، ثم سنعلّمه اللغة الإنجليزية، وهي اللغة الثانية في هذا البلد، وأظنك تعرف أن عدن كانت مستعمرة إنجليزية حتى ما قبل 3 سنوات، وبعد ذلك سنعلّه اللغة الروسية، اللغة الأم للمعسكر الاشتراكي التي أجيدها أنا وأنت، وعندما يتقن شعبنا هذه اللغات الثلاث تماماً، فستفكر في مشروع تعليم اللغة الألمانية.. عد إلى الوزير وقل له أن (عمر الجاوي) يقول إن اللغة الألمانية لن تمر إلاّ على جثته".
بهت الألماني الذي لم يتعود مثل هذه اللغة، فانسحب دون أن ينطق بكلمة، وكان هذا الموقف العامل الثاني من عوامل الحرب بين مجلس إدارة الإذاعة والتلفزيون ومديرها العام وبين الوزارة ووزيرها.
لم يكن الجاوي يملك سيارة، وفي الوقت نفسه يرفض استخدام سيارات الإذاعة والتلفزيون، وكنا في طريقنا إلى الشارع عقب الاجتماع للبحث عمّن يقلّنا على طريقة (الأوتوستوب) فصادفنا (ضرار عبدالوهاب) مراقب البرامج الذي أوقفه الجاوي عن العمل منذ أول يوم وهو رجل خطير له أبعاد وأعماق، فخاطب الجاوي بقوله: "باين عليك ناوي (تعصدها)" فقال الجاوي: "أيوه… ولكن في بطنك".
أول ما وقفنا على الرصيف توقفت لنا سيارة، ولدهشتي كانت سيارة (العميد) عبدالوهاب الباري الذي لم أره منذ عدة أشهر، والذي انفجر أول ما شاهد الجاوي: "أنا يا عمر يشنّعوا عليّ ويسمّوني (عبدالقات عبدالبوري) (رأس النرجيلة)"… أخذ عمر في تهدئته بينما العميد يدوس على (البريك) و (الكلاتش) في ضربات سريعة متتابعة.. .طيب على كيفك، مافيش قطع غيار في البلاد… قال العميد: "بافرجّك انتقامي".
أزاح العميد سجادة من على (البريك) والكلاتش حيث ألصق صورتين لـ (لينين) و (ماركس) أخذ يدوس عليهما، علّق الجاوي: "لا حول إلا بالله، با يخلّوا نص شعبنا مجانين".
عبدالله البلعسي
2012-03-31, 11:18 PM
صالح الدحان وحكومة الربع ساعة (12/58)
كتبهافضل النقيب ، في 22 مارس 2007 الساعة: 17:43 م
كانت عدن في مطالع السبعينات من هذا القرن تغلي في فوهة بركان، وقد أخذ الناس يتحولون إلى أشباح، وجوهٌ مصفرة، أجسادٌ هزيلة، عيونٌ زائغة، شعورٌ منكوشة تجلّلها الغبرة، وأخذ الكثيرون من الناس والعائلات المستورة يهيمون على وجوههم بحثاً عن لقمة تسدّ الرمق بعد أن شحّت الموارد عقب التأميمات التي شملت كل شيء والتي لم تفد الدولة في شيء، اللهم مدّها بمسكنٍ مؤقت لا تدري متى ينتهي مفعوله وقد لا يظهر له مفعولٌ أبداً.
وكان الصحفي المرموق صاحب القلم الساخر (صالح الدحّان) يسمي الحكومة: (حكومة الربع ساعة) ليش يا عم صالح؟ افهمها يا أهبل، إنهم يخططون لربع ساعة قادمة، فإذا نجحوا واجتازوا الربع ساعة بسلام، صفّقوا من الفرح وأطلقوا خطة الربع ساعة الثانية… مهزلة… ثم يؤكد العم صالح أن فنجان الشاي الذي يشربه يكلف الدولة 10 فناجين… كيف؟ شوف اللي على الطاولة المجاورة والذي هناك… وذلك الذي في الركن، كل هؤلاء يراقبون (عمك صالح) وهات يا أكل ويا شرب على حسابي، وفي الأخير كلنا (مفاليس) تذكرت تعقيب عمر الجاوي على انفعال (العميد) وإحساسه أنه مطارد: "لا حول إلاّ بالله… با يخلّوا نص شعبنا مجانين".
وسط هذا البلاء العظيم كانت (الماكينة) الدعائية تبيع قسائم الجنة في الدنيا وتمنّي الناس بالمنّ والسلوى، بس… بعد أن نقضى على أمريكا وحلفائها وعلى (الثورة المضادة)، ولكل أجلٍ كتاب، ولا أدري أي ذهنٍ عبقري تفتق عن فكرة إنزال الناس إلى الشوارع لتثوير الجماهير، وإرهاب الطابور الخامس، وما عاد للناس من شغل شاغل إلاّ المسيرات بالفؤوس والعصي والطّبل والزّمر، و "سالمين نحن أشبالك وأفكارك لنا مصباح، وأشعلناها ثورة حمراء بعنف العامل والفلاح" لم تعد البلد تنتج أيّ شيء سوى الشعارات.
تحوّل مبنى الإدارة العامة للإذاعة والتلفزيون إلى ملاذ لأصناف مختلفة من البشر كلّهم يجرون وراء عمر الجاوي للمساعدة أو لحل مشاكلهم المالية أو التوسط للإفراج عن معتقل، أو السؤال عن مفقود، وتجدهم يقعدون بالساعات في مكتبه وفي الممرات وعلى الدرج وفي الباب الخارجي… وأخذ الجاوي يغرق في هموم الناس ولا يجد من ينقذه هو من الغرق.
أخيراً نتسحّب أنا وعمر مثل لصين هاربين بعد أن نكون قد ضمنا وجبة غداء عند أحد الأصدقاء حيث نجد هناك بعض مريدي عمر الذين ما أن يهلّ عليهم كأنه خارج من (اليم) حتى يقفوا صفاً واحداً ينشدون النشيد الذي ألفو ولحنّوه خصيصاً لوليّهم: "عمر الجاوي أتى … عمر الجاوي ذهب… عمر الجاوي حديد… عمر الجاوي ذهب".
عبدالله البلعسي
2012-04-19, 12:44 PM
الغلبان يترحم على أيام المرحوم (13/58)
كتبهافضل النقيب ، في 21 مارس 2007 الساعة: 16:51 م
كانت تلك الأيام مليئة بالمفارقات، مفعمة بالإثارة، غارقة في البلبلة واللاّمعنى. وكانت العاصمة عدن قد أجهدت بمعنى الكلمة، فتوقفت جميع المصاعد في شارع المعلا الرئيسي، أجمل شوارع العاصمة، وتوقفت خدمات إضاءة السلالم وجمع القمامة وأصبح على السكان صعود سلالم العمارات العالية في ظلام دامس والاصطدام بأكوام النفايات في كل منعطف.
كما انطفأ الحي التجاري (كريتر) فقد فقدت عدن بجرّة قلم التأميم موقعها الاستراتيجي كمحطة ترانزيت، وإعادة تصدير عبر البحار، وكانت تنافس في ذلك هونج كونج وسنغافورة.
وأصبح حي الميناء (التواهي) واجهة العاصمة البحرية الذي كان يعج بالحياة على مدار 24 ساعة مقفراً كأنه مسرح روماني مهجور. وفي العموم سقطت المدينة في هوّة (العدم) وانطبق عليها ما وصفها به صحفي غربي من أنها أشبه بمدينة مصطنعة أقامها مخرج في الصحراء لتصوير فيلم سينمائي، وبعد أن دبت فيها الحياة لعدة أسابيع هجرتها الأضواء وتركها الممثلون وفريق العمل لتواجه مصيرها المحتوم.
نعم… كانت عدن تواجه مصيرها المحتوم بكبرياء ولا مبالاة وبقدرة عجيبة على التكيف مع سوافي العاصفة، وكان ألطف ما في الأمر هو المساواة في الظلم الذي قيل عنه أنه نوعٌ من (العدل) فقد (اختلست) جلود الجميع عدا قلة قليلة لم تكن تستفزّ الملأ بنعمتها المحدثة في تلك الفترة المبكرة.
كان وزير الإعلام (عبدالله الخامري) ملك الأناقة بقامته القصيرة وقمصانه (المودرن) ونظارته الذهبية، وعطوره الباريسية، وحركات يديه المدهشتين أثناء الحديث، وكان يبدو مثل نجم مضيء في سماء سوداء فقد كانت (الموضة) في تلك الأيام لبس (الكاكي) والبهذلة والحديث بكلام مبهم غير مفهوم، أخرج من اللعبة جيلاً كاملاً لم يعد قادراً على الإصغاء أو الحديث… وفي العموم كان (الخامري) رجل حوار مدني النزعة شاعري الرؤية.
وقد استضفته في حوار تلفزيوني حول مشاكل تطبيقات قانون التأميم، وكان من ضمن الأسئلة سؤال عن مدى قانونية استقطاع أقساط أثمان بيوت باعتها الحكومة السابقة لموظفين، وأممت المنازل الحكومة الحالية مع الاستمرار في تحصيل أقساط ثمن بيوت لم تعد لهم… فأجاب الخامري، عليهم أن يستمروا في السداد، فالتأميم شيء ومستحقات الخزينة شيءٌ آخر… ثم من قال لهم يشتروا؟!!!.
عندما سألني عمر الجاوي عقب المقابلة عن انطباعي من خلال لقائي مع صديقنا الوزير قلت له ما قاله الأعرابي عن نحويي البصرة: "إنهم يتكلمون بلغتنا عن لغتنا بما ليس من لغتنا".
تذكرت قصة الرئيس (سالمين) مع المواطن الغلبان من (الشيخ عثمان) الذي اشتكى له ضعف حاله بعد تأميم مطعمه ذاكراً أنه متزوج من أربع فأجابه الرئيس: "ومن قال لك تتزوج أربع…" فبهت المسكين فقال للرئيس بعفوية: "والله لو كنت أدري أنك باتحكم البلاد ما كنت تزوجت أصلاً، بس أنا تزوجت الأربع أيام المرحوم (يقصد الإنجليز)".
جبل الضالع
2012-04-19, 08:53 PM
الغلبان يترحم على أيام المرحوم (13/58)
كتبهافضل النقيب ، في 21 مارس 2007 الساعة: 16:51 م
كانت تلك الأيام مليئة بالمفارقات، مفعمة بالإثارة، غارقة في البلبلة واللاّمعنى. وكانت العاصمة عدن قد أجهدت بمعنى الكلمة، فتوقفت جميع المصاعد في شارع المعلا الرئيسي، أجمل شوارع العاصمة، وتوقفت خدمات إضاءة السلالم وجمع القمامة وأصبح على السكان صعود سلالم العمارات العالية في ظلام دامس والاصطدام بأكوام النفايات في كل منعطف.
كما انطفأ الحي التجاري (كريتر) فقد فقدت عدن بجرّة قلم التأميم موقعها الاستراتيجي كمحطة ترانزيت، وإعادة تصدير عبر البحار، وكانت تنافس في ذلك هونج كونج وسنغافورة.
وأصبح حي الميناء (التواهي) واجهة العاصمة البحرية الذي كان يعج بالحياة على مدار 24 ساعة مقفراً كأنه مسرح روماني مهجور. وفي العموم سقطت المدينة في هوّة (العدم) وانطبق عليها ما وصفها به صحفي غربي من أنها أشبه بمدينة مصطنعة أقامها مخرج في الصحراء لتصوير فيلم سينمائي، وبعد أن دبت فيها الحياة لعدة أسابيع هجرتها الأضواء وتركها الممثلون وفريق العمل لتواجه مصيرها المحتوم.
نعم… كانت عدن تواجه مصيرها المحتوم بكبرياء ولا مبالاة وبقدرة عجيبة على التكيف مع سوافي العاصفة، وكان ألطف ما في الأمر هو المساواة في الظلم الذي قيل عنه أنه نوعٌ من (العدل) فقد (اختلست) جلود الجميع عدا قلة قليلة لم تكن تستفزّ الملأ بنعمتها المحدثة في تلك الفترة المبكرة.
كان وزير الإعلام (عبدالله الخامري) ملك الأناقة بقامته القصيرة وقمصانه (المودرن) ونظارته الذهبية، وعطوره الباريسية، وحركات يديه المدهشتين أثناء الحديث، وكان يبدو مثل نجم مضيء في سماء سوداء فقد كانت (الموضة) في تلك الأيام لبس (الكاكي) والبهذلة والحديث بكلام مبهم غير مفهوم، أخرج من اللعبة جيلاً كاملاً لم يعد قادراً على الإصغاء أو الحديث… وفي العموم كان (الخامري) رجل حوار مدني النزعة شاعري الرؤية.
وقد استضفته في حوار تلفزيوني حول مشاكل تطبيقات قانون التأميم، وكان من ضمن الأسئلة سؤال عن مدى قانونية استقطاع أقساط أثمان بيوت باعتها الحكومة السابقة لموظفين، وأممت المنازل الحكومة الحالية مع الاستمرار في تحصيل أقساط ثمن بيوت لم تعد لهم… فأجاب الخامري، عليهم أن يستمروا في السداد، فالتأميم شيء ومستحقات الخزينة شيءٌ آخر… ثم من قال لهم يشتروا؟!!!.
عندما سألني عمر الجاوي عقب المقابلة عن انطباعي من خلال لقائي مع صديقنا الوزير قلت له ما قاله الأعرابي عن نحويي البصرة: "إنهم يتكلمون بلغتنا عن لغتنا بما ليس من لغتنا".
تذكرت قصة الرئيس (سالمين) مع المواطن الغلبان من (الشيخ عثمان) الذي اشتكى له ضعف حاله بعد تأميم مطعمه ذاكراً أنه متزوج من أربع فأجابه الرئيس: "ومن قال لك تتزوج أربع…" فبهت المسكين فقال للرئيس بعفوية: "والله لو كنت أدري أنك باتحكم البلاد ما كنت تزوجت أصلاً، بس أنا تزوجت الأربع أيام المرحوم (يقصد الإنجليز)".
رحم الله جميع الناضلين والمناضلات
vBulletin® v3.8.12 by vBS, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir