حذرت الوثيقة من التيه في المسالك الضبابية ، التي من شأنها إطالة أمد الإحتلال ، وبرأيي أن هذه هي نقطة الإرتكاز التي يجب التوقف عندها لمراجعة الموقف .. إننا وبما تضمنته الوثيقة نقع – لا شعورياً – في أتون التيه ، وننجر إلى الحديث عن المصطلحات ، وإحساسنا بانعدام الرؤية الواضحة يزداد عمقاً ، ونقف حيارى عند حائط المبكى المسمى " الحراك السلمي " لأن الوثيقة لم تُشر إلى خيارات أخرى تكون أكثر فاعلية في حال أخفقت المساعي السلمية في تحقيق هدف الإستقلال .
افتقرت الوثيقة إلى التماسك المنطقي ، فهي تختزل الحراك السلمي في سنواتٍ ثلاث ، بينما تمتد معاناة هذا الشعب ومقاومته وتَلقّي ضربات الإحتلال الموجعة بصمتٍ يجرحه الأنين ، منذ أن أحكم سيطرته على ربوع الوطن في العام 94م ، وما تكَتُّل الجموع إلا إفرازٌ تلقائي لجملة من المقاساة المُرة التي رافقت الهزيمة وامتدت إلى يومنا هذا .
الجنوب العربي هويتنا إذا ما أمطنا عن صفحة التاريخ تلك الشوائب التي افتعلها ذات يوم قادة الجنوب العربي أنفسهم ، وأرادوا له أن يكون جنوباً يمنياً في إطار أكذوبة صدقها الكل بإصرار ، فحلت بنا كارثة بحجم ذلك التصديق . وسيادة القائد علي سالم البيض هو أحد صُنّاع هذه الفريّة ، أو لنقل راكبٌ على مطية السفر إلى جزر الأحلام التي كان يزينها شيطان الحزب الإشتراكي من طرازٍ جديد ، وهو اليوم يخجل من ذكر " الجنوب العربي " ويكتفي بلفظ " الجنوب " ما يفتح الباب على مصراعيه لتساؤلات تصب في بوتقة التيه التي تحذر الوثيقة من وطأته على قضيتنا العادلة .
"الجنوب العربي " ذلك المكوّن البسيط قبل أن تعتريه دناسة العهر السياسي ، وتُغيّرُ في إسمهِ وجسمه ، هو تلك المادة الخام التي تشكلت بفعل عوامل أهواء التيارات الحزبية لتغدو لقمةً سائغة في فم الإحتلال ، ولذلك فإن الإحتكام إلى أزمنة الماضي واستنطاقها بأثرٍ رجعي ، لا يتوقف بنا عند 21 مايو 2009 الذي أشارت إليه الوثيقة بوصفه يوم فك الإرتباك ( وكأن إعلان الدولة في 21 مايو 94م لم يكن يعني فك الإرتباط ) ولا يقف عند 22 مايو 90م يوم توقيع وثيقة بيع الجنوب العربي برسم الحماية الشخصية لعناصر ما يسمى " بالطغمة " ولا يقف عند يوم 30 نوفمبر 67م الذي آلى فيه مصير الجنوب العربي إلى أيدي الوحوش الكاسرة في غابة التناحرات المتتالية ، ولكنه يقف بنا تماماً مع توقف السفينة " دريادولت " عام 1838 في سواحل عدن ، ويضعنا وجهاً لوجه مع ربان هذه السفينة " الكابتن هنس " لنقرأ في عينيه مجمل هذه التحولات ، وننظر فيما حولنا فلا نجد أثراً للمدعو " اليمن " ، ونكتشف بعد مضي 156 عاماً على لقائنا التاريخي بـ " هنس " أننا لم نكن نمتلك إرادتنا ، وأننا قد أسلمنا أنفسنا طوعاً لخبراء التجميل الذين اجتهدوا في تغيير وجهنا الجنوبي العربي ليبدو " يمنياً بامتياز" .
هذه هي الحقيقة المرة التي تجعل من الوقوف عندها أكثر مرارةً ، فهل الحراك السلمي سيظل سلمياً ؟! ، وهل التعويل على محكمة " لاهاي " ومناشدة حقوق الإنسان ، سيعيد للجنوب العربي حريته واستقلاله ؟ إننا نوهم أنفسنا بتفهم العالم لقضيتنا ، لأن هذا العالم ينظر إلى ما يجري على أنه شأنٌ داخلي ، وأن الحراكيين مجموعة متمردة خارجة عن النظام ، وأن الجنوب ( الذي يأنف البيض وهو الوجه الشرعي أمام العالم ) تسميته " بالجنوب العربي " يرسخ القناعة الدولية بعدم التدخل ، ويترك لنا وحدنا خيار التدخل ، ويبقى تدخلنا سلمياً إلى أن يبعث الله فينا عباداً لهُ أولي بأسٍ شديد ، يسطرون ملاحم بطولية تحت شعار :
وما نيل المطالب بالتمني .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا .
وحتى ذلك الحين فإن دورنا ينتهي عند المشاهدة لمسرح المسيرات الجماهيرية للحراك السلمي ، وإرسال التعازي كلما سقط شهيد برصاص قناصة المحتل ، الذي يتلذذ بساديته المعهودة وهو يرى دماء فتية الجنوب العربي تُراق بنزفٍ حتى في زنازين الإعتقال .
إن الإشارة التي تضمنتها الوثيقة مستشهدةً بقضية فلسطين تحفزنا على المطالبة بتشكيل جناح يمثل الجناح العسكري للحراك على غرار " كتائب القسام " ( الجناح العسكري لحركة حماس ) ويكون رافداً حيوياً لتعزيز الجهود السلمية وداعماً لها ، ولنا في التجربة السودانية مثالاً حياً ، لقد أجبر جنوب السودان – الذي يُعد جزؤُ من الإقليم – أجبر حكومة السودان نفسها على تبني قضية انفصاله بعد مقاومة باسلة ، وعليه فإن قضية الجنوب العربي لن تأخذ حيزاً في اهتمام الرأي العام إلا بوجود مثل هذا الجناح المسلح الذي بدونه يبقى الحراك السلمي بائساً لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع .
تحياتي
طائر الاشجان
|