عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-03-25, 12:13 AM   #11
عبدالله البلعسي
قلـــــم ماســــي
 
تاريخ التسجيل: 2009-01-15
المشاركات: 13,875
افتراضي

هذا عمر الجاوي (10/58)





صباح مدينة عدن لا يشبهه أي صباح آخر في الدنيا، فالمدينة المكونة من (كريتر) و (المعلا) و (التواهي) كتلة حجرية هائلة من جبال بركانية ضخمة، حملت برافعة آلهية، ووضعت في قلب الماء (جزيرة أو شبه جزيرة)، وأمامها أراضي سبخة تحتوي (ملاّحات) بمرواح عملاقة يتلامع الملح فيها تحت ضربات الضوء الأولى، وخلف الملاّحات صحراء موحشة تأنس بها لمصاحبتها (سيف البحر) حتى (أبين) أو تخترق كثبانها حتى (لحج) حيث يوجد واديان من أخصب وديان اليمن.
أما سكان المدينة فيدبون في (فوهة البركان) في (كريتر) حيث القاع العميق، أو (يتشعلقون) بمنحدرات الجبال في (المعلا) و (التواهي).
لذلك فإن للصباح رائحة البحر وأنفاس الملاحات وهبات الجبال الكبريتية، وأنسام الصحراء النقبية، وتلك الزخات العطرية التي ترسلها دلتا (أبين) ودلتا (لحج) هدية لتلك المدينة الدهرية التي عمرها من عمر الزمن.
يضاف إلى ذلك الحالة المعنوية للناس في رخائهم وشقائهم، في أمنهم وخوفهم، ولم تكن تلك الأيام التي نتحدث عنتها آمنة من خوف ولا مطعمة من جوع، لذلك فإن أنفاس الصباح لم تكن تخلو من قسوة المعاناة.
ذلك الصباح الاستثنائي كان مختلفاً، فقد هبط على متن سفينتنا (الإذاعة والتلفزيون) التي كانت تترنح تحت القصف والقصف المضاد للنفوس المتنمرة والأرواح المتوثبة، والمصالح المتقاطعة، نورس بالغ الجمال وربان مقاتل من الطراز الأوّل، هو (عمر الجاوي) الذي عيّن مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون، ولم يكن من الحزب الحاكم، كما لم يكن موظفاً عاماً يمكن أن يؤمر فيأتمر، لذلك فقد هيّأ مسرح القتال منذ لحة هبوطه، ولم نعرف معه طعم الراحة أبداً، ولكننا عرفنا مجد التحدي وتعلمنا فنون الاقتحام… تقول له: هذا جبل يا عمر، فيقول لك: عيب، حد نظرك.. انا ابن عبدالله، هذه غيمة هشة دق راسك براسها، وحين تعود إليه بدمّك يقول لك: "هكذا الرجال، ذي ما يكسر ظهرك، يقوّيك".
عمر الجاوي الذي درس في طنطا وموسكو، وكان زعيماً طلابياً بارزاً وأحد أبرز قادة الدفاع عن صنعاء في حصار السبعين يوماً، كان رجلاً قصير القامة برأس أصلع وعينين مغناطيسيتين جاحظتين، وصوت جليل حين يتكل بأداء موسيقي أخاذ مطرز بالشعر والحكم والأمثال الشعبية، كان يسارياً باللسان، شعبياً تراثياً بالوجدان، إنسانيا في الأعمال، إنه بالضبط الذي عناه الشاعر بقوله: ترى الرجل النحيف فتزدريه / وفي أثوابه أسدٌ هصور.
قام الجاوي دون الرجوع إلى الوزير والوزارة بتشكيل مجلس للإذاعة والتلفزيون، وعيّنني نائباً له ومديراً للإذاعة (دون معرفة سابقة، ودون استحقاقات مالية) وكان أول قرار اتخذه حرمان نفسه من راتب المدير العام، والتنازل عن صلاحياته المالية للمسؤول المالي (عيب نوسّخ أنفسنا بالفلوس) ثم اقذفوا بكتّاب التقارير ولصوص المهنة في الشارع، فإن لم تستطيعوا فأقفلوا عليهم في الغرف الخلفية المظلمة…
وهكذا دخلت مع عمر الجاوي في نفق لم أكن أعرف ما ينتظرني فيه، ولكنه كان مليئاً بالإثارة والتحديّ والكبرياء، فإذا كنت مع (العميد) في قلب زوبعة، فإنني مع (الجاوي) على جناح عاصفة لا تهدأ ليل نهار.
__________________
[IMG]file:///C:/Users/dell/Downloads/562735_452337594800990_1195827186_n.jpg[/IMG]
عبدالله البلعسي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس