عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-10-26, 12:34 PM   #8
نزار السنيدي
قلـــــم ذهبـــــي
 
تاريخ التسجيل: 2010-01-10
المشاركات: 3,104
افتراضي

اسمح لي بهذه المداخله في موضوعك حول دور الفرد والتنظيم او الجماعه في صناعه التاريخ
ثار جدل غني، في الفكر المعاصر، حول دور الفرد في التاريخ ولا تكاد تجد في "مدارس" الفكر السياسي الحديث من لم تخض في هذا الجدل، بصورة أو بأخرى، مقترحة تصوراً أو جواباً عن قيمة وحجم ذلك الدور المفترض. بل إن نظريات ـ بعينها ـ انفردت بصياغة أطروحات كاملة في الموضوع تحوّلت الى عنوان رئيس ورسمي لها (أعني النظريات) وقد حدث ذلك في الحالتين المفترضتين جواباً عن سؤال العلاقة بين الفرد والتاريخ: أي في حالة التنويه بمركزية ذلك الدور وبناء قراءة لوقائع التاريخ على فرضيتها، أو في حالة الانتقاص من قيمته واستبعاد الاعتراف بأي أثر له.
تساوق هذا الانشغال "النظري" مع تضافر جملة من الحوادث التاريخية الكبرى لعب في تضاعيفها أفراد معينون ـ غالباً ما كانوا زعماء سياسيين ـ أدواراً حاسمة ورائدة تراءت لكثيرين مناسبة للاعتقاد في قدرة الأفراد على صناعة التاريخ. وقد كانت الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى أكثر تلك الحوادث تعبيراً عن مناسبة ذلك الاعتقاد. بل هي حملت بعضاً ممن يفترضون ذلك الدور (الكاريزمي) للأفراد على إقامة نوع من أنواع التلازم بين تلك الثورات والزعماء الذين رشحتهم أحداثها الساخنة الى احتلال واجهة الإعلام بها. هكذا تداخلت صورة الثورة الفرنسية ـ مثلاً ـ بصورة بونابارت، وصورة الوحدة الألمانية بصورة بسمارك، وصورة الثورة الروسية بصورة لينين، والصينية بماو تسي تونغ، والفييتنامية بهو شي منه، والمصرية بجمال عبدالناصر... إلخ، وغدت أحداث هذه الثورات وما أعقبها ونتج عنها قابلة للقراءة من مدخل شبه وحيد هو مدخل التماهي بينها وبين القدرات الفذة للزعماء الذين أداروا دفتها.
وكما وجدت هذه الوقائع ـ التي تداخل فيها عمل الأفراد مع تفاصيل منعطفاتها الضخمة ـ من بنى عليها "نظرية" الدور الرائد للزعيم في التاريخ، وجدت ـ في المقابل ـ من كان على استعداد لتحجيم أثر العوامل الذاتية (الفردية) في صناعة التاريخ، وذلك بإعادة مَوْقَعَة تلك الأدوار داخل نسيج تلعب فيه العوامل الموضوعية ـ الاجتماعية والسياسية ـ الدور الحاسم والعميق. ففي مواجهة شَخْصَنَة التاريخ والبحث في أفعال صانعيه عن "روح" يمثلها قائد "ملهم"، مشبع بقيم الفروسية البطولية، انتصبت صورةً من التحليل وضعت "الزعيم" في موقعه الطبيعي من البنى التي ينتمي إليها (الطبقية، أو المجتمعية، أو القومية). وفي سياق الآليات الكبرى العميقة التي تتخطى ـ في اشتغالها ـ إرادة الأفراد وقدراتهم، لتعيد ـ بالتالي ـ تأويل الأحداث تأويلاً موضوعياً بعد أن تنزع عنها فرضية البطولة الفردية والكاريزما الشخصية.

... و"الحقيقة" أن المتأمل في مادة هذا الجدل وفرضياته، يستطيع أن يعاين ضيق المسافة بين الأطروحتين بعكس ما يبدو من شقاق وتنافر بينهما. وليست تلك المعاينة الشاهدة على ضيق المسافة بينهما سوى الثمرة "النظرية" الطبيعية لفهم حوادث التاريخ من مدخل منهجي يعيد الاعتبار لفكرة التداخل والتجاور بين العوامل الذاتية ـ ودور الفرد جزء منها ـ وبين العوامل الموضوعية، على حساب فكرة ترجيح إحداها، ترجيحاً قسرياً، على الأخرى انتصاراً لمنهج على آخر مما اعتاد عليه كل خطاب فكري في الصراع الإيديولوجي من أجل إثبات الذات!
في سياق هذه القراءة الجدلية، نستطيع الاعتراف بتداخل دور الفرد مع دور العوامل الموضوعية في صناعة التاريخ. صحيح أن الفرد ليس تمثيلاً مطلقاً لـ"الروح" الجمعي لدى الأمة على ما ذهب الى ذلك هيغل والفينومينولوجيا المعاصرة. لأن في ذلك تعالياً به الى سدة الميتافيزيقا حيث يمتنع التاريخ عن أن يكون فضاء مادياً لأفعال واقعية. وصحيح أن الفرد ليس محض قطعة باردة في رقعة شطرنج قابلة للتوظيف البنيوي الخارجي من دون فعالية ذاتية على ما ذهبت الى ذلك بعض لحظات المادية التاريخية أو البنيوية الميكانيكية. ومع ذلك، فلمسة الفرد في تفاصيل التاريخ بيّنة لا غبار عليها، بمقدار ما هو منضبط على إيقاع حركة التطور الموضوعي التي تتجاوزه بعد أن تصهره في مصهرها، ولنا أن نفترض ـ مثلاً ـ ماذا كانت ستكون عليه الأمور في روسيا السوفياتية، غداة وفاة لينين، لو آلت الأمور الى تروتسكي أو بخارين أو كامينيف أو زينوفييف بدل ستالين؛ وماذا كانت ستكون عليه في الصين، غداة وفاة ماو تسي تونغ، لو حكمت "عصابة الأربعة" بدل دينغ كسياو بينغ وهوا كوفينغ؛ وماذا لو أمهلت السكتة القلبية القاتلة جمال عبدالناصر عشر سنوات أخرى؛ وماذا لو انتخبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي ليغاتشيف بدل غورباتشوف بعد وفاة قسطنطين تشيرنينكو؛ وماذا لو نجح غينادي ياناييف وفريقه في الاحتفاظ بالسلطة بعد الانقلاب على غورباتشوف... إلخ؟ ربما كان صعباً أن تتغير الأحداث في روسيا البلاشفة وفي صين الشيوعيين وفي مصر الناصرية وفي موسكو البيرسترويكا... ولكن قطعاً ما كانت الأحداث لتجري بنفس ما جرت به، وبالسرعة التي تمت بها فقادت روسيا الى الدموية الستالينية المرعبة، وقادت الصين الى رأسمالية "العصرنات الأربع"، وقادت مصر الى "الانفتاح" و"كامب ديفيد"، والاتحاد السوفياتي الى الانفراط!
نزار السنيدي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس