مرت أيام وشهور كثيرة ونحن في الزنازين الانفرادية وهذا فقط في حساب تاريخ ( التقويم ألزنزاني ) وهذا التقويم مختلف عن كل التقويمات التي تضعها الشعوب بداية لتسجيل تاريخها ويرتبط بحوادث عظيمة سجلت في حياة هذه الشعوب إلا إن التوقيت لتاريخ التقويم الزنزاني يختلف كثيرا عن أي تقويم آخر با اعتبار إن توقيته لا يعتمد تسجيل أيام التاريخ عند كل طلعة شمس وقد لا يكون يوم التقويم الزنزاني 48 ساعة بل قد يتجاوز أضعاف مضاعفة حسب النفسية التي تعيش في الوضع الزنزاني الانفرادي ولذلك حين عدت إلى وضعي الطبيعي بعد الخروج من السجن لأحسب أيام بقائي في مسار التقويم الزنزاني الانفراد الغير طبيعي لأجدها أقل بكثير من حسابات المعاناة في الوضع الزنزاني الانفرادي .
نعم لم تكن أكثر من شهر وعشرون يوما تقريبا منذ كنت فيها بين أولادي وأهلي وهي فترة قليلة مقارنه بحجم الشوق للجو الأسري وللحياة العائلية ولكل واحد من إفراد أسرتي وناسي وأصدقائي هي فترة طبيعية ووقت قصير فعليا لو كانت في ظروف طبيعية ولكنها ( دهرا) هنا ولن أزيد عن ذلك حرف
كثير ممن لهم زيارات محددة بيوم في الأسبوع لمده لا تزيد عن ربع ساعة في الأوقات العادية تجدهم ينتظرونها بفارق الصبر ويعدوا لها ويحضروا لهذه الزيارة حتى العبارات التي سيقولونها لأهلهم بحيث لا يحسب عليهم العسكري أو الضابط الرقيب والمراقب للزيارة أي أخطاء تجعل أدارة السجن تمنع أخراجهم لزيارة أهلهم في الأسبوع التالي وفي الزنازين الانفرادية لا يسمحوا لأهالي المعتقلين فيها بالزيارة إلا في الحالات النادرة وخاصة بعد انتهى فترة التحقيقات مهما طالت وعادةً فالذين في هذه الانفراديات أما هم معتقلين جدد أو أنهم أنزلوا من الزنازين الجماعية في الأدوار العلياء إلى هذه الانفراديات الضيقة كعقاب ولذلك فعلى من يشعر بضيق بالزنزانة الجماعية أن يختلق إشكالية ليتم أنزاله وهناك كثير ممن لا يريدون الزنازين الجماعية لأنهم ألفوا وتكيفوا مع الانفرادية وخاصة ممن هم متهمون بالانتماء لتنظيم القاعدة ولهم سنوات كثيرة في هذه الزنازين .
نعم بعد هذه الفترة وبعد استكمال التحقيقات معي كما أسلفت سابقا وفي ظهر أحد أيام الأربعاء وكنت شبه نائم سمعت السجان القادم من قسم الزيارات يطلب أسمي ويقول زيارة بالرغم انه لم ينطق اسمي نطق سليم ـــ وعلى فكرة غالبا ما أصادف أشكال في نطقهم لأسمي عندما يقرءونه مكتوبا فمنهم من يقول الزبيري ومنهم من يقول الزبيدي أو الربيدي ــ نعم سمعت السجان القادم من الزيارات يرطن باسمي وهو في نقاش مع السجان المناوب ويحوموا حول أسمي في حين إن المناوب يقول لا يوجد لدينا هذا الاسم قمت صائحا : "يا عسكري أنا إنا الربيزي الربيدي أي شي تريد أريد أتأكد يمكن أكون إنا المقصود" وفعلا كان أسمي ولي زيارة وكان السجان من قسم الزيارات يقول لفينا عليك كل الأقسام وأهلك لهم أكثر من ساعة منتظريك ( يا سبحان الله هذا وإنا بين أيديكم) شي لا يوصف من الفرحة اختلط عندي كل شي في كل شي اختلطت الفرحة العارمة مع الحزن الشديد عندما شاهدت والدتي المسكينة ما استطيع أن ألمس يديها بل أشاهدها من بعيد اختلطت دموع الفرح لمشاهدة والدتي وأخي الكبير وأقاربي الثلاثة بدموع الحزن لعدم استطاعتي أن أروي لهم ما جرى لي ولم استطيع إن أسلم عليهم هم يذرفون دموعهم وخاصة أمي بلا توقف وهي تحاول أن تقول لي كلام كثير ولا تقدر إن تقول لي كلمة في ما أخي الكبير يتحاشى أن تقع عيناه في عيني لكي لا أرى تأثره يسألوني عن كل شي فيما لا يستطيعوا أن يقولوا شي وأطمئنهم عن نفسي بكلمات قليلة تحشرجت في حلقي وسببت لي جفاف في فمي ما قدرت حتى أبلع ريقي هي لحظات صعبه جدا .. لا استطيع وصفها تماما المهم جابوا لي بعض ما احتاجه وقلت لهم ما احتاجه بصعوبة حطوا لي مبلغ من المال وهذا المال لا يسلم لنا إلا على شكل كروت ورقيه لها قيم توازي الأوراق النقدية ولا تستطيع شراء بها شي أو تعطيها لعسكري سجان يجلب لك بها شي لأنها لابد أن تمر بالإدارة لكي يتم صرفها ولذلك موظف مختص وفي أوقات خاصة ومحدده ولهذا النظام ايجابياته على أساس انه حد من رشوة السجين للسجان ولكنه لم ينهيها تماما , كان ذلك اليوم يوم نادر وجميل جلست في المساء وأنا أمضغ القات الذي أتوني به أفسر كل كلمة مشفرة قالوها لي وكنت سألت عن الحراك وأجابوني بكلام مشفر عرفت محتواه سألتهم عن كل شي واستطعت فهم ما استطعت وقتها والباقي فكيت شفرته في المساء عن المناطق منطقة منطقه وعن قناة عدن وأخبروني بأنها ستبث على النيل سات قريبا , أنطلق خبر زيارتي الأولى بسرعة الصاروخ إلى زميلي أحمد القنع وأرسل الموفد أو المبعوث الرسمي حقه لأعطي له من ما جادوا به أهلي من أكل وقات وأخبار وهي الأهم . يوم مهم حصل في حياتي يوم كانت أول زيارة زاروني أهلي فيها وخلصت إلى أني أصبحت من أصحاب الزيارات الأسبوعية وأصبح الأسبوع ثقيلا متثاقلا بعد أن صارت الأيام لها معنى ولها حساب وحسبة في لحظة تقدم يوم الأحد مر واليوم الاثنين باقي منه ساعات وهكذا في انتظار يوم الأربعاء إلى إن جاءت ساعاته الأولى لم أذق النوم من فرحة قدوم يوم زيارة أهلي الثانية لي وجاء وقت الزيارة ومر دون أن يأتي طائر السعد ليخبرني بقدوم أهلي للزيارة ويا لها من صدمة ويا لها من نكبه وكانت نكبة منها عانيت من القلق ما عادل ما عانيته طوال أيام السجن يا ترى ما السبب ؟ يا ترى لماذا لم يأتوا ؟ وشكيت قلقي لسجان جنوبي من لحج وترجيته إن يتصل بالأهل ليسألهم لماذا ما أجوا ؟ وكانوا قد منعوهم بحجة إن ما فيش أمر رسمي أعطي للإدارة وان الأسبوع الماضي كان غلطة إلا أن ضابط من الأقارب تابع لإخراج أمر بالزيارة وفعلا أصبحت أسبوعيه كل يوم أثنين وبعد ذلك تم تغييره إلى يوم الثلاثاء لان أمي الغالية كانت تصوم يوم الاثنين وتتعب عندما تزورني وهي صائمة
و و و سنعود وسنواصل
دعواتكم للشهداء بالجنة وللجرحى بسرعة الشفاء وللمعتقلين بفك أسرهم
ولا تنسوا الفاتحة