عرض مشاركة واحدة
قديم 2007-10-06, 04:56 PM   #5
نبيل العوذلي
قلـــــم فعـــّـال
 
تاريخ التسجيل: 2007-10-06
المشاركات: 885
افتراضي مواصلة 4

ويرون من أعظم الهجن أن يقوم هذا عن المرأة ويخلفه الآخر عليها، ولهذا حرم نكاح الزانية وأوجب العِدَدَ والاستبراء، ومن المعلوم قطعاً أن هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراء، ولا تخِفّ، وكذلك شرع الحجِّ إلى بيته لأنه قوام للناس في معاشهم ومعادهم، ولو عطل البيت الحرام عاماً واحداً عن الحج لما أمهل الناس، ولَعُوجلوا بالعقوبة، وتوعَّد من ملك الزاد والراحلة ولم يحج بالموت على غير الإسلام، ومعلوم أن التحيل لإسقاطه لا يزيل مفسدة الترك، ولو أن الناس كلهم تحيلوا لترك الحج والزكاة لبطلت فائدة هذين الفرضين العظيمين، وارتفع من الأرض حكمهما بالكلية، وقيل للناس: إن شئتم كلكم أن تتحيلوا لإسقاطهما فافعلوا، فليتصور العبد ما في إسقاطهما من الفساد المضاد لشرع الله وإحسانه وحكمته، وكذلك الحدود جعلها الله تعالى زَوَاجرَ للنفوس وعقوبة ونكالاً وتطهيراً، فشَرْعُهَا من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات إذا علمت أن لها طريقاً إلى إبطال عقوباتها فيها، وأنها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل؛ فإنه لا فرق عندها البتة بين أن تعلم أنه لا عقوبة عليها فيها وبين أن تعلم أن لها عقوبة وأن لها إسقاطها بأدنى الحيل، ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل إلى سياسة وال أو أمير يأخذ على يَدِ الجُنَاة ويكف شرهم عن الناس إذا لم يمكن أرباب الحيل أن يقوموا بذلك، وهذا بخلاف الأزمنة والأمكنة التي قام الناس فيها بحقائق ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم لم يحتاجوا معها إلى سياسة أميرٍ ولا والٍ، كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإنهم كانوا يحدُّون بالرائحة وبالقَيْء وبالحبَل وبظهور المسروق عند السارق، ويقتلون في القسامة، ويعاقبون أهل التهم، ولا يَقْبَلُون الدعوى التي تكذبها العادة والعرف، ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون أربابها، ويحبسون في التهم حتى يتبين حال المتهم، فإن ظهرت براءته خلوا سبيله، وإن ظهر فجوره قرروه بالعقوبة اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقوبة المتهمين وحبسهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة وعاقب في تهمة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى من ذكر ذلك عنه وعن أصحابه ما فيه شفاء وكفاية وبيان لإغناء ما جاء به عن كل وال وسائس، وأن شريعته التي هي شريعته لا يحتاج معها إلى غيرها، وإنما يحتاج إلى غيرها مَنْ لم يُحِطْ بها علماً أو لم يقم به عملاً.
والمقصود أن ما في ضمن المحرمات من المفاسد والمأمورات من المصالح يمنع أن يشرع إليها التحيل بما يبيحها ويسقطها، وأن ذلك مناقضة ظاهرة، ألا ترى أنه بالَغَ في لعن المحلِّل للمفاسد الظاهرة والباطنة التي في التحليل التي يعجز البشر عن الإحاطة بتفاصيلها؛ فالتحيل على صحة هذا النكاح بتقديم اشتراط التحليل عليه وإخلاء صُلْبه عنه إن لم يَزِدْ مفسدتَه فإنه لا يُزِيلها ولا يخففها، وليس تحريمه والمبالغة في لعن فاعله تعبداً لا يُعْقَل معناه، بل هو معقول المعنى من محاسن الشريعة، بل لا يمكن شريعة الإسلام ولا غيرها من شرائع الأنبياء أن تأتي بحيلة؛ فالتحيل على وقوعه وصحته إبطال لغرض الشارع وتصحيح لغرض المتحيل المخادع. وكذلك الشارع حَرَّم الصيد في الإحرام وتوعَّدَ بالانتقام على مَنْ عاد إليه بعد التحريم، لما فيه من المفسدة الموجبة لتحريمه وانتقام الرب من فاعله، ومعلوم قطعاً أن هذه المفسدة لا تزول بنصب الشِّبَاك له قبل الإحرام بلحظة، فإذا وقع فيها حالَ الإحرام أخذه بعد الحل بلحظة، فإباحته لمن فعل هذا إبطال لغرض الشارع الحكيم وتصحيح لغرض المخادع.
وكذلك إيجاب الشارع الكفارة على مَنْ وطىء في نهار رمضان فيه من المصلحة جبر وَهن الصوم، وزجر الواطىء، وتكفير جُرْمه، واستدراك فرطه، وغير ذلك من المصالح التي علمها مَنْ شرَع الكفارة وأحبها ورضيها، فإباحةُ التحيل لإسقاطها بأن يتعدى قبل الجماع ثم يجامع نقضٌ لغرض الشارع، وإبطال له، وإعمال لغرض الجاني المتحيل وتصحيح له، ثم إن ذلك جناية على حق الله وحق العبيد؛ فهو إضاعة للحقين وتفويت لهما.
وكذلك الشارع شَرَعَ حدود الجرائم التي تتقاضاها أشَدَّ تَقَاضٍ لما في إهمال عقوباتها من مفاسد الدنيا والآخرة، بحيث لا يمكن سياسة ملكٍ ما من الملوك أن يخلو عن عقوباتها البتة، ولا يقوم ملكه بذلك، فالإذن في التحيل لإسقاطها بصورة العقد وغيره مع وجود تلك المفاسد بعينها أو أعظم منها نَقْضٌ وإبطال لمقصود الشارع، وتصحيح لمقصود الجاني، وإغراء بالمفاسد، وتسليط للنفوس على الشر.
ويالله العجب! كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة في المنع منه وقتل فاعله شر القتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها ثم يسقط بالتحيل عليه بأن يستأجرها لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضه منها؟ وهل يعجز عن ذلك زانٍ أبداً؟ وهل في طباع وُلاَة الأمر أن يقبلوا قول الزاني: أنا استأجرتها للزنا، أو استأجرتها لتَطوِيَ ثيابي ثم قضيت غرضي منها، فلا يحل لك أن تقيم عليّ الحد؟ وهل ركَّبَ الله في فِطَرِ الناس سقوطَ الحد عن هذه الجريمة الجريمة التي هي من أعظم الجرائم إفساداً للفراش والأنساب بمثل هذا؟ وهل يسقط الشارع الحكيم الحد عمن أراد أن ينكح أمه أو بنته أو أخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها بعد ذلك؟ وهل زادُه صورة العقد المحرم إلا فجوراً وإنما واستهزاء بدين الله وشرعه ولعباً بآياته؟ فهل يليق به مع ذلك رفع هذه العقوبة عنه وإسقاطها بالحيلة التي فعلها مضمومةً إلى فعل الفاحشة بأمه وابنته؟ فأين القياسُ وذكر المناسبات والعلل المؤثرة والإنكار على الظاهرية؟ فهل بلغوا بالتمسك بالظاهر عُشْرَ مِعْشَار هذا؟ والذي يقضي منه العجب أن يقال: لا يعتد بخلاف المتمسكين بظاهر القرآن والسنة، ويعتد بخلاف هؤلاء، والله ورسوله منزه عن هذا الحكم. ويالله العجب! كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس وكلما أمسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي، والدار التي دخلتها داري، والرجل الذي دخلت داره عبدي؟ قال أرباب الحيل: فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك، فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة أو عادلة، فضْلاً عن شريعة نبي من الأنبياء، فَضلاً عن الشريعة التي هي أكمل شريعة طرقت العالم؟.
وكذلك الشارع أوجب الإنفاق على الأقارب؛ لما في ذلك من قيام مصالحهم ومصالح المنفق، ولما في تركهم من إضاعتهم؛ فالتحيل لإسقاط الواجب بالتمليك في الصورة مناقضة لغرض الشارع وتتميم لغرض الماكر المحتال، وعَوْدٌ إلى نفس الفساد الذي قصد الشارع إعدامه بأقرب الطرق، ولو تحيل هذا المخادع على إسقاط نفقة دَوَابه لهلكوا، وكذلك ما فرضه الله تعالى للوارث من الميراث هو حق له جعله أولى من سائر الناس به، فإباحة التحيل لإسقاطه بالإقرار بماله كله للأجنبي وإخراج الوارث مُضَادَّة لشرع الله ودينه ونقض لغرضه وإتمام لغرض المحتال، وكذلك تعليم المرأة أن تقر بدَيْنٍ لأجنبي إذا أراد زوجُهَا السفر بها.
نبيل العوذلي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس