لا تزال مؤسساتنا الصحية ترفع شعار"الجهل حتى الموت..والإهمال حتى الفناء..والفساد حتى نهلك جميعاً" شعار تتلخص مفرداته من خلال ما نلمسه من رداءة واقع صحي بات يعيش حالة احتضار وتشوهات بفعل مخلفات تنامى الفساد في هذا القطاع.
مستشفي الجمهورية التعليمي في محافظة عدن أحد أكبر مؤسسات القطاع الصحي في اليمن وأقدمها على الإطلاق حيث يشكل هذا المستشفى مزاراً رئيسياً لأبناء المحافظة ويرد إليه عدد كبير من أبناء المحافظات المجاورة لعدن وهو احد نماذج تشوهات النظام الصحي في البلد بعد إذ أصبح اليوم وعشرات المراكز الصحية بعدن شاهد عيان على ما آل إليه الوضع الصحي في هذه المحافظة.. فما إن تطأ قدمك بوابة هذا المستشفي حتى تستشعر عاطفتك الرحمة والشفقة وينتاب شعورك الحسرة والألم بعد أن وصل الإهمال في هذا المستشفى إلى حد اللامعقول حيث تنخر سطوح الحمامات و تتقاطر منها المجاري فوق رؤوس مرتاديها من المرضى بفعل تهالك شبكة المجاري في المستشفى وصدى الأنابيب الموجودة على جدران المستشفى وخاصة جدران الجهة الخلفية التي أخذت تتشقق جراء تشبعها بالمياه المتسربة عبر شبكة المياه والصنابير في الأحواض الخاصة ببعض الأقسام وذلك كله بفعل تراكم الصدى وتكاثر الصراصير حولها.
فئران و قطط تعبث بمحتويات المرضى فيما البعوض يسلبهم راحة النوم، و مشاهد تحكي للزائر مأساة وضع طبي لمستشفى صار بفعل الإهمال والفساد وغياب الرقابة والمحاسبة عاجزاً عن تقديم أبسط الخدمات الطبية لمرضى تستقطع من أموالهم الضريبة تحت مسمى تأمين الخدمات و مع ذلك يدفعون رسوماً باهظة للحصول على وهم اسمه الصحة في هذه المستشفى.
دعوة رئيس الجمهورية الأسبوع الماضي خلال لقائه بعدد من قيادات المجلس المحلي بمحافظة عدن للحكومة بالاهتمام وتطوير القطاع الصحي في عدن بما في ذلك إعادة إنشاء مستشفى الجمهورية التعليمي بخور مكسر رآها البعض بأنها تهدف إلى خلق زخم إعلامي, مستدلين بتوجيهات مماثلة عند كل زيارة موسميه يقوم بها الرئيس إلى المدينة.
إن آفة الفساد التي ظلت ولازالت تعبث بخيرات الوطن طيلة السنوات الماضية لم يعد يجدي معها اليوم قرارات الترقيع والتجميل المرحلية ما لم يتم اجتثاث تلك الآفة وإعادة البناء على أرضية صلبه خالية من براثين الفاسدين، ومع أن الفساد الحاصل اليوم قد شمل كافة مناحي الحياة غير أن الفساد في المجال الصحي يعني الموت وهو ما يدفع ثمنه المواطن العادي دون المسئول.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فان ما نورده هنا فقط حول وضع مستشفي الجمهورية المركزي في هذه المحافظة كنموذج للوضع الصحي برمته يكفي لإقالة ومحاسبة وزارة بأكملها وليس فقط - ما لم يتم - وهو تقديم مدير عام للمحاسبة، ففي أواخر العام 2001م قضى سبعة مرضى نحبهم بالعناية المركزة في يوم واحد بعد توقف أجهزة الإنعاش عن العمل اثر انقطاع التيار الكهربائي في المستشفي مدة 12ساعة الأمر الذي وقفت أمامه إدارة المستشفي عاجزة عن عمل أي شي بعد اكتشافها أن مولد المستشفي الخاص خارج نطاق الجاهزية منذ أمد.
هذا الحادث صادفه حادث مشابه في العام 2001م حين انقطع التيار الكهربائي عن العاصمة الروسية "موسكو" لمدة ساعتين بسبب خلل فني في احد المولدات الرئيسية ما تسبب في توقف حركة القطارات داخل العاصمة غير أن حادثة موسكو انتهت حينها باستقالة وزير الكهرباء بينما انتهى الأمر في مستشفي الجمهورية دون حتى ولو حمرة خجل وكأن شيئا لم يكن.
غياب المحاسبة والرقابة مكن بعدها لجحيم ما يسمى بالصحة مواصلة مسلسل العبث بأرواح بريئة ليأتي الدور التالي على ضحية أخري هي الطفلة ريم الهاشمي البالغه من العمر "9" أعوام وبخطأ طبي وصف بالفادح فكانت روحها الطاهرة هي الثمن, تلاها مريض أخر في العام 2004م وبنفس الخطأ الطبي أثناء التخدير ثم تلويث دم مواطن بفيروس نقص المناعة المكتسبة "الايدز" بدماء من داخل بنك الدم في المستشفى جرى فحصها في أجهزة فحص عاطبة مع علم إدارة الصحة والوزارة بعطب تلك الأجهزة مسبقاً ،ثم حالة اختناق ووفاة لمريض بعد اكتشاف الأطباء نفاذ اسطوانات الأكسجين الموجودة في المستشفي ، وتلويث دماء مريض أخر في مستشفي عدن العام بفيروس الكبد الوبائي،....الخ.
ولعل أخر فضائح الفساد في أروقة مستشفي الجمهورية هي صفقة الأدوية المنتهية الصلاحية التي أبرمتها المستشفي مع أحدى وكالات الأدوية وكشفت المصادر عن تقاضى مدير المستشفى والذي تم إقالته فيما بعد أكثر من مليون ريال كعمولة, لتأتي بعدها قضية اختفاء كمية كبيرة من الأدوية المهربة الخاصة بإمراض القلب باهظة الثمن كان مكتب الصحة قد قام بمصادرتها أثناء عملية تفتيش لمخازن بيع الأدوية بعدن وبعد إيداعها مركز السل الرئوي في مدينة المنصورة اختفت تلك الكميه ليكشف النقاب عن قيام بعض الجهات ببيعها مره أخري على مخازن الادويه.
استيراد أجهزة عاطلة
وبإطلاله على الواقع الصحي في هذا المستشفي تبدو الصورة أكثر قتامه, ففي قسم الغسيل الكلوي بالمستشفى يؤكد لنا أطباء وعاملين في القسم قيام إدارة المستشفى بشراء جهازين من إحدى الشركات تقدر قيمة الواحد من هذه الأجهزة بمبلغ 15 ألف دولار اتضح بعد أخذها بأن أحد الجهازين عاطل و بدلاً من إعادته لاستبداله كون القسم يعاني من نقص الأجهزة تم استخدامه فيما بعد كقطع ( تشليح ) لباقي الأجهزة, و بحسب أحد الأطباء هناك فإن القسم يعاني ايضاً من نقص كبير في مواد الغسيل و نقص في الأجهزة قائلاً
اضطررنا مؤخراً إلى تجميع بعض المبالغ من رواتب الأطباء بصفة إنسانية للتخفيف من معاناة المرضى و إصلاح بعض من هذه الأجهزة العاطلة.
ويستقبل قسم الغسيل الكلوي يومياً أكثر من 35 حالة معظمهم من خارج مدينة عدن من القادمين إليها من المحافظات و المناطق المجاورة كـ ( لحج ـ أبين ـ الضالع ـ لودر ) وعند انقطاع التيار الكهربائي عن هذا القسم و باقي الأقسام الخارجية في المستشفى فإن عمل أجهزة الغسيل تتوقف كما تتوقف باقي الأجهزة في الأقسام الأخرى لعدم وجود مولد احتياطي لها فيما عدا المبنى الداخلي للمستشفى الذي أعيد تأهيل مولده الاحتياطي مؤخراً بعد حادثة وفاة السبعة في غرفة الإنعاش والذي كان سببه الرئيسي انقطاع التيار الرئيسي الذي يغذي المبنى بالكهرباء و بقائه ساعات في وقت كان فيه المولد الاحتياطي للمستشفى خارج الجاهزية .
و مع أن هذا القسم يواجه ضغط كبير في جانب الإقبال عليه حيث يرتاد المرضى بالتناوب مرتين في الأسبوع لكل مريض فإن مشاكل أخرى تقف أمام عمل القسم منها انقطاع المياه وعدم وجود خزانات كافية و هو ما يضطر إدارة القسم إلى شراء الماء لتزويد القسم عبر سيارات النقل ( البوزة ) .
وفي قسم الطوارئ يروي لنا طبيب آخر مقيماً الوضع الخدمي
نحن نشتغل في قسم الحوادث أحياناً بلا أجهزة ضغط قيمتها 6 ألف هي لا تخسر المستشفى الشيء الكثير ) .
وفي العيادات الخارجية للمستشفى بجميع أقسامها لا تتعدى مداومة الطبيب في تلك الأقسام الساعتين فقط حيث يحضر الطبيب إلى القسم عند الساعة التاسعة صباحاً من كل يوم و في الحادية عشر يغادر تلك الأقسام ليجدها الزائر بعد الحادية عشر أبواب مؤصدة .
الثقة المفقودة بين الطبيب و المريض أضحت أمراً مكشوفاً زادت فجوة اتساعها في الآونة الأخيرة لأسباب تراكمية أفرزتها مراحل عديدة من التدهور و الانفلات و أصبح الحصول على تشخيص سليم أمراً مستحيلاً كما يقول (المواطن سامي أحمد الذي يعاني من مرض جلدي) : "حدد لي الطبيب فحص " بول " و في مختبرات المستشفى جاءت النتيجة بأني أعاني من مرض فشل كلوي, أخذ الطبيب يستغرب من نتيجة الفحص فأمرني بمعاودة الفحص خارج المستشفى و كانت النتيجة خالية تماماً من أي مرض) .
13 حالة وفاة عن أخطاء طبية في المستشفى
إحصائيات سابقة حول أوضاع المستشفى كانت قد نشرت في وقت سابق كشفت عن أكثر من 13 حالات وفاة خلال السنوات الأخيرة ناتجة - بحسب تلك الإحصائيات- عن أخطاء طبية معظمها نتيجة زيادة جرع التخدير ( البنج ).
وأثناء زيارتك لهذه المستشفي تقف مصدوماً للحالة المفزعة التي وصلت إليها البلاد ، دولة تهتم في المظهر و شوارع واسعة أقيمت في عدن ليس بسبب تضاعف عدد السيارات و لكن لتسهيل نقل الموتى إلى المقابر عملاً بالقول المأثور ( إكرام الميت دفنه ) هؤلاء الموتى الذين توفوا بسبب إهمال الدولة لواجباتها تجاه مواطنيها سواء بسبب حالات المستشفيات المفزعة فهي مستشفيات خالية من أبسط أدوات الرعاية للمريض وهو توفير الدواء له.
هشام محمد – احد نزلاء المستشفى - موظف حسب قوله لدى الدولة منذ خمسة وعشرين عاماً قال ساخطاً
أدفع من راتبي أكثر من 16% ضريبة و ما فيش دولة في العالم تقطع على الموظفين حقها 16% ضريبة حتى في أمريكا وأوروبا يقطعون فقط 2% و مع ذلك ينعمون بجميع الخدمات بما فيه خدمات صحية ممتازة ونحن -والحديث له-
لا نجد الخدمات الصحية المتميزة و لا أيضاً ـ تعليم ـ نظافة ـ حدائق ـ و مستشفيات أو خدمات أخرى مقابل ما تدفعه بل يفترض أن تعطى على أقل تقدير مجانية الدواء.
و يختم حديثه أصبحنا في معادلة مقلوبة فبدلاً من أن تصرف علينا الحكومة نحن نصرف عليها وعلى كل شيء في المستشفى بفلوس فلا توجد مجانية التطبيب إلا في القانون فقط .
تقرير برلماني يحكي فداحة الوضع الصحي
وبحسب تقرير للجنة الصحة العامة والسكان بمجلس النواب الصادر منتصف العام الحالي 2007 فقد أكد التقرير فداحة الأوضاع الصحية في محافظة عدن وتعرض منشآت صحية للانهيار وكذا سوء أوضاع الصرف
الصحي وتردي مستوى النظافة والتغذية
وقال التقرير خلال استعراضه لنتائج الزيارات الميدانية لمحافظة عدن من 14 إلى 22 ابريل من العام الفائت بأنه لم يتم تنفيذ العديد من المشاريع المعتمد تنفيذها بالمحافظة وفقا لما ورد في الخطة الخمسية (2001-2005م). وانتقد التقرير غياب السياسات والرؤية الواضحة لتقييم معالجات الاختلالات القائمة في مختلف المنشآت الصحية في المحافظة حيث أكد بان أوضاع المباني أصبحت متهالكة بسبب الظروف المناخية وعوامل الإهمال وعدم الصيانة الفورية والسريعة وفقا لمخططات إنشائها.
وانتقدت اللجنة في التقرير الوضع المتردي لمستوى النظافة والتغذية والتي تهدر عليها ملايين الريالات دون الاستفادة المثلى منها خصوصا في ظل عدم سيادة مبدأ التنافس للشركات المتعهدة واحتكارها على متعهدين بعينهم يسيطرون على كافة المنشآت الصحية.
وأكدت اللجنة حاجة المنشآت الصحية بالمحافظة إلي رفدها بالكوادر المتخصصة والفنية والتمريضية ليتسنى لها تأدية الخدمات الصحية بشكل جيد, كما انتقد التقرير عدم توفير ابسط المعدات والأجهزة الطبية في كل من مستشفي الجمهورية التعليمي ومستشفي عدن ومستشفي الوحدة للأمومة والطفولة ، وخصوصا المعدات والأجهزة التي يجب توفيرها في أقسام الإنعاش وغرف العمليات.
وقالت اللجنة بأنها لمست بان هناك إهمالا كبيرا من قبل إدارات المستشفيات في توفير تلك الأجهزة والمعدات ولو بشكل جزئي من إيرادات مساهمة المجتمع حتى يتم العمل على توفيرها مركزيا.
اللجنة أثناء زيارتها الميدانية لكافة المنشآت الصحية في المحافظة عانت من الحرارة التي وصفتها بغير المحتملة نتيجة لعطل المكيفات المركزية وعدم توفير التكييف الأمر الذي يسبب المعاناة الكبيرة للكادر وللمرضى خصوصا الذين يخضعون لتدخلات جراحية " , الأمر الذي قد يؤدي إلى حدوث مضاعفات غير حميدة".
وأشارت اللجنة إلى الوضعية المأساوية التي يمر بها المرضي المتواجدون في ما يسمي بمستشفي الأمراض النفسية والعصبية الذي يفتقد ابسط القيم الإنسانية في المعاملة والرعاية الصحية والنظافة والتغذية.
وأكدت اللجنة افتقار المستشفى لأبسط الأثاث من أسرة وفرش وأغطية وكذا أي معدات وأجهزة طبية في أقسامه في الوقت الذي تبين للجنة عند زيارتها للمخازن وجود كافة متطلبات التأثيث والأجهزة والمعدات التي يرجع كثير منها للتجهيزات الموفرة في السابق للمستشفي والآخر ما تم توفيره من قبل صندوق التنمية بموجب مشروع المناقصة المبرمة مع الصندوق لترميم وإعادة تجهيز المستشفي.