أحمد عبد اللاه يكتب :: السعودية والجنوب والعاصفة التي استدارت
أحمد عبد اللاه يكتب :: السعودية والجنوب والعاصفة التي استدارت
عادوا من خلف التباب ومن على قباب الحمم المتجمدة، يتقدمون نحو قلعة الصحراء بعد أن أكلت قبيلة جُرهم مال الكعبة، وفرّت إلى أرض جهينة بعد أن ضل الهدهد طريقه إلى سيده العالي في “قصر الحكم”، ولم يبق على الأرض سوى بعض أهلها في مواجهة هذا الزحف. وفي المدى المفتوح يتلاشى شعار التهريج “نحن هنا أين أنتم”، وتتوارى معه حركات البلياتشو الفضائي خلف شاشات الفضيحة، وهي تعوي فوق رمال اليأس بعد أن أهرقت دم الحقيقة بأطول مسلسل تضليل في تاريخ الحروب. لم يخجلوا للحظة واحدة، ولم يملوا من تدوير طواحين الرياح المسمومة، سنة بعد سنة يمتص (المتفندقون) جوف الأرض وينفخون خيباتهم في فضاءات المدن المخدوعة حتى تاه المقاتلون في حروب السماء، ولم يبقَ فيهم من يتذكر أي أرض يحارب من أجلها، فذهب جيش الوهم يبحث في حربه على الجنوب عن الانتماء المفيد الذي يبقيه على قيد الموجة العالية. وسنة بعد سنة ينكشف عجز المملكة أمام من صُنعت العاصفة لاقتلاعهم، وهي التي قدمت نفسها في ليلة ليلاء من 2015م بأنها المنقذ المفترض لشعب يتآكل بفعل الحروب والفقر والأمراض. لكنها بعد سنين من العجز حقّ عليها القول إنها التي تحتاج عاصفة داخلية لاقتلاع جذور العتمة المهيمنة على سياساتها وعلى عزلة صناع القرار عن الواقع. لقد أثبتت المملكة أنها لا تشبه إلا ذاتها المُعتَّقة، ولا تنجح إلا في إفشال حلفائها الحقيقيين في الدول العربية، على أيدي أجهزتها المُحنّطة في صناديق الفساد والبيروقراطية والولاءات المتضادة، فتكسرت عاصفتها فوق الرمال المتحركة، وعادت قافلة قريش مسلوبة بعد أن أفرغت حمولاتها في أيدي اللصوص. لقد استدارت العاصفة، بعد انكساراتها شمالاً، نحو الجنوب على موجات مختلفة واتجاهات مشتتة، تعكس الغموض والخلل داخل أجنحة النظام في المملكة. وسوف تقود -إذا استمرت- إلى إضعاف القدرات العسكرية الجنوبية، بسبب الاستنزاف اليومي، وإلى إلحاق الأذى بالبيئة الوطنية الجنوبية الخالية من العصبيات الطائفية، وإلى خلخلة تلاحم أهل الأرض وثباتهم على أهدافهم المعلنة، وفرض طابع ديني لمحتوى الصراع، عن طريق إنعاش “التيارات السلفية الجهادية” في مناطق من أرض الجنوب، ودعم “تنظيم الإخوان” ليتمدد في مناطق جنوبية أخرى، متسترة خلف توليفات ومزاعم “المشروع العربي” البائس، لتوريط شعب لا يجد ما يدفعه للاعتقاد بأن لدى المملكة رؤية تتوافق حتى مع الحد الأدنى من طموحه الوطني، سوى أن قياداته فُرش لها السجاد فوق رخام الصالات فدخلوا في غفلة الأجواء الناعمة ولغات الدبلوماسية اللزجة، التي تتسلل عبر روائح الثياب البيضاء و(الشماغات) المهدبة، لتمسح عنهم غبار المعارك وتنسيهم نزيف شعبهم المتروك في عُهدة الفساد المُركّب لثنائية الأدوات التابعة للشرعية والسعودية. لقد دفع الجنوب الكثير، حين تم استدراجه -بكل طاقاته- لتصبح أهداف عاصفة الحزم مقدمة على مشروعه الوطني، وتورّط في مسارات التخبط السعودي وأدواته، وفي الدفاع غير المباشر عن “شرعية” تنظيم الإخوان، وأصبح خصماً مشتركاً لكل المتحاربين ومحاطاً بالفاشيات الدينية، ودفع أثماناً باهظة فاقت -بكل المقاييس- ما كان سيقدمه للدفاع عن أرضه، إذا استخدمت قياداته السابقة واللاحقة قدراتها العسكرية والسياسية، واتكأت أولاً وأخيراً على شعبها ومثابرته على التضحيات من أجل أهداف نقية خارج الإملاءات. سوف يتحمّل الجنوبيون كارثة استمرار الصبر، والسكوت عن تدمير مقومات الحياة في عاصمتهم وفي مدنهم وقراهم، وتحويل المنهزمين شمالاً إلى حكام على بلادهم، وعن محاولات المملكة في السعي الجاد لنزع الروح الجنوبية الملهمة من إرادة المحاربين، وإنتاج خليط مسخ من قوات متعددة الولاءات مع دعم وتطوير قدرات المجموعات الدينية، في مشهد يبعث على تنمية بيئة صراعات مركبة ومعقدة في الجنوب. لقد أصبح جلياً أن المملكة لم تغير الآليات والأدوات والسياسات، وتبحث في كل مرة عن نتائج مختلفة، ولم تتعلم بعد من دروس الأحداث الرهيبة في دول إسلامية وعربية أخرى، وكما يبدو أن أحداً لم يخبرها بعد بأن فكرة تحرير صنعاء قد تحوّلت في وعي الأوساط الشعبية إلى خزعبلة مقرفة، وأن “عاصفة الحزم/الأمل” قد انتهت إلى مجرد تهويش الريح بالتراب، وحجبت الرؤية وضللت الرائي عن مساره، وخلصت الحدّوثة. |
حقيقة لاخيال
|
Loading...
|
Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.