المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العقل السياسي الجنوبي


قرصم
2011-12-17, 05:13 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

العقل السياسي الجنوبي

إن أعظم إنجاز أدركه العقل السياسي الجنوبي وإن جاء متأخراً عن أوانه لأكثر من نصف قرن من الزمن هو مبدأ التصالح والتسامح وبمعنى أكثر شمولاً الانفتاح على الآخر بعيداً عن الجمود العقائدي الذي أطرت له الأدلجة منذُ استقلاله حتى ذهابه فيداً قيادة وشعب وأرض ومقدرات ولعل ما أصاب الجنوب هو حالة من التقوى والإيقاظ فبدأ في دمج ذاته ونقدها مستلهماً كبوات تاريخه وحالات يقظته وسباته.
إن كم التراكم التاريخي من التشذي والاحتقان أسهم إلى حد بعيد في نضوج العقل السياسي الجنوبي وتآنيه عن مخدر الأيدلوجيا لصنمية عبادة الجملة الثورية التي لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من ورائها وهو ما أثبتته سنوات التيه في حكم الحزب الاشتراكي منذُ 30 نوفمبر 1967م إلى 22 مايو 1990م .
ويخطئ من يعتقد أن الأزمة الجنوبية وليدة وإن معالمها لم تفصح عنها إلا في منتصف الثمانينات وبداية التسعينات فالأزمة الجنوبية بدأت منذُ بدايات تبلور الوعي المدني والحقوقي والسياسي في هيئات وجمعيات ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب ويعود ذلك إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وتزاحمت مشكلاتها وتعقدت مسميات الإلغاء للآخر والعقلية السلفية والتي ليس بالضرورة أن تكون دينية وسيادة خطاب الأيدلوجيا السياسي الداكن السواد الأحمر الغاني عند الممارسة.
لكننا اليوم على عتبات تاريخ جديد لا ينبغي ونحن نحتفي في تصديره التفتيش في رخام لا يخلوا من ندق الثلج المتفرقة والمتباعدة الإمكانية.
وإن ما تم في 22 مايو 90م لم يكن سوى اندماج فساد دولتين في وحدة واحدة وإن كان لدولة الجنوب ما قبل هذا التاريخ من حق في التحول إلى مفترق إلا أنها لم تكن مخولة الصلاحية في إعطاء الأرض واستلاب إرادة الشعب والذهاب به أبعد مما يتصور ولم يكن يكفينا استلاب إرادته ثلاثين عاماً ليتم إلغاء إرادته بتوقيع شخصين على اتفاقية الوحدة مهما كانت عصمته.
إن ما تم كان تتويج لسنوات التيه إذ بلغت الأوج واعتقدت أنها نهاية الأفق، وكما أشرت سلفاً لن نستثني ذلك التاريخ وفي الوقت ذاته نحتاج لدراسته باستفاضة لأنه يقدم لنا مادة خصبة وهي كذلك للتوطئة والبناء عليها فرغم نظام العنف الذي عرفه الجنوب ورغم عجزه عن بناء الدولة المدنية متعددة الخيارات ورغم تعامله مع الفكر بشيء من الاحتراء والنفعية ورغم أن قادته لم يخلعوا خلاعة العصبة والقبيلة من صراعاتهم ولم يحتكموا إلا لضيق الأفق والجمود العقائدي، إلا أنهم صنعوا دولة قائمة على المؤسسات وكان للمصفوفية القانونية اعتبارها غالباً وحققت إنجازات في القطاعين الصحي والتربوي ومن المحزن أن ذلك قد ذهب فيداً ليعبث به نظام الفيد الكبير.
وعودة إلى ذلك التاريخ لابد من العودة إلى أن الوحدة لم تكن شعاراً استراتيجياً ولا تكتيكياً إلا في مرحلة متأخرة من نهاية السبعينيات ولم يكن يتبناها الجنوبيون في السلطة إلا بعد دمج مجموعة الشمال في إطار الحزب الاشتراكي اليمني ولم تكن الوحدة مطلباً شعبياً ملحاً آنذاك أو في أي يوم من الأيام مما شكل عقدة في كل الصراعات التي تلت واسهم في إيصال البلاد إلى حافة الهاوية في يناير 86م.
إن لدولتي اليمن شمالاً وجنوباً ومنذُ قرون تمتع كل جزء في استقلاله عن الآخر وتطور بمعزل عنه وقطعاً كان هناك تأثير لكل جزء على الآخر.
ولو أن الذي تم في 22 مايو 90م بداية لسياسة تكامل اقتصادي تدريجي مع حرية الحركة وضريبة جمركية فقد يؤتي ثماره.
لقد شكل 22 مايو 90م انتكاسة تاريخية وبداية دورة أخرى من دورات الأزمة الجنوبية.

الأزمة الجنوبية في دوراتها السالفة كان كل طرف يلفظ الآخر لكن هذه المرة قيادة متكهنة تلفظ نفسها والأرض والإنسان برهان عجز وعدم توائم بينها وبين الأرض والإنسان لخوفها من جنوب آخر يطلب حسابات كل سنوات التيه.
وكالعادة ما كان يجب أن تقدمه في أوانه (وثيقة العهد والاتفاق) وكان أوانها 22 مايو 90م تأخرت عن موعدها لتزيدنا يقيناً إن القيادات الجنوبية التي تعاقبت على حكم الجنوب لم يربطها بالسياسية سوى التغريب الذي كانت تمارسه مع شعب الجنوب.
والآن بعد مضي ما يقارب العشرين عام من الوحدة التي مارس فيها الشمال (قيادة) سياسة الانفصال محاولةً لتدجين الجنوب وجعله موقعاً فحسب لا يعتد به، تستحلب ثروته ومقومات نهضته فيداً إذ حولت عدن من ميناء تجاري عالمي إلى شاليهات كبيرة مدعية أن هذه سياحة.
مع أن عدن إضافة إلى موقعها البحري يمكن أن تكون أكبر قاعدة للصناعات السمكية بالشرق الأوسط وواحة للصناعات التحويلية الغذائية، وتسعى إلى تهميش المكلا فكلا المكانين اكتظا بالاسمنت والحديد والمعمار ليس إلا.
بينما اختفت الطبقة الوسطى فمنها من هوى إلى قاع الفقر ومنها من تحول إلى سمسار للوبيات الفساد.
ومن المعروف أن دولة العصبة والغنيمة ارتخائها والعيش على اقتصاد طفيلي يضر بالمصلحة ويسهم في تهميش السواد الأعظم من الشعب وكان الجنوب ضمن هذا السواد وإن ما يهم دولة من هذا النوع هو بناء قوة بوليسية تحمي مصالحها وجيشاً لا يصلح إلا لضرب الشعب.
لذا فإننا نفرق بين نوعين من الجنود من يتبع الدولة وهو رخيص يعيش على الأتاوات، أما جندي السلطة فمهاب حذر يطلق النار متى أوعزت له السلطة بذلك.
لذا فإن ما يرعبها هو تحول الجنوب إلى تيلة متدحرجة من النضال السلمي كل يوم يكبر حجمها.
لقد أكسب النضال السلمي أبناء الجنوب مناعة وقوة روحية جامحة وتتوق للتحرر من سلطة العصبة والغنيمة وبناء الدولة الجنوبية المدنية متعددة الخيارات بلا وصاية أو كهانة وهي تسعى اليوم للاتحاد في بوتقة واحدة حاملة مشروعها الحضاري ورؤياها المتقدمة عن نوع الجنوب الذي نحلم به.
سنظل نحلم ونحلم حتى يتحقق الحد الأدنى من هذا الحلم، وسنظل نقدم التضحيات في نضالنا السلمي دفاعاً عن هذا الحلم.
إن الحراك السلمي الجنوبي اليوم على عتبات مفترق طرق.

مما سلف من التاريخ المنصرم التي أثبتت أمراً مفرغاً منه أن القيادات التاريخية للجنوب قد تكهنت وأي تعويل عليها يضر بالمسألة الجنوبية وهي أحد صناعها مما ينبغي أن تتبلور الأزمة الجنوبية لقيادة مرحلية من الداخل أكثر تماساً مع المعضلات التي يعاني منها الجنوب أكثر استدراكاً لفك المعضل الجنوبي وتتبنى مشروعاً سياسياً يحمل وجهة نظر صريحة من القيادات المتكهنة في الخارج والحذر من شخصيات أقصى ما تريده سرقة أحلام الجنوبيين بعد أن قدمت مالها وتاريخها لطقمة الفيد في الشمال ولم تصل إلى مآربها وها هي اليوم تقدم دينها ورائها في آخر المطاف وعلنيا أن نحترم تاريخهم وعليهم احترام إرادتنا.
ومن معضلات الأزمة الجنوبية الهوة التي يصنعها بعض أقطاب الحراك بين مواطني الشمال والجنوب وبث ثقافة الحقد والكراهية الذي قد تصيب هذه العلاقة بشرخ وجداني سيندم الحراك يوماً على اصطناعها.
وموقف بعض أقطاب الحراك ممن أحزاب المعارضة في المشترك الذي ينبغي على الحراك أن يضعوا في الاعتبار الإبقاء على شعرة معاوية مع المعارضة جنوبية كانت أو شمالية والقبول بالآخر مهما كانت درجة الاختلاف معه، كل ذلك يجب أن يصاغ ويصور في البرنامج السياسي لأقطاب الحراك الذي يستوجب وحدتها القائمة على القاسم المشترك عودة الأرض الجنوبية لا استعادة الدولة الجنوبية، وصنع الدولة المدنية متعددة الخيارات الخالية من الإملائات والوصاية ورفض وصاية الخارج وإلغاء الذات مقابل القيادة المتكهنة بالخارج قد نتعدد في رؤانا ولكن قطعاً يجمعنا هدف مشترك هو استعادة الأرض والهوية وأن يكون عهداً علينا أن لا نحسم خلافاتنا بالطريقة الهمجية التي أدت بنا إلى هذا التأزم وأن نحتكم للحوار والالتفاف حول القاسم المشترك.
وغالباً والأعم أن الخلاف يظهر بصورته الجليلة في قيادات الحراك إنما القواعد يجمعها وجدان وهم سياسي واحد وهو استعادة الكرامة والهوية والأرض.
لأن القيادات تشغل نفسها في التفاصيل الصغيرة التي تضر وتفرق ولا تحترم أحياناً وجدان الشارع وتضحياته الفضة ونضاله وعلى الشارع الجنوبي أن يسموا ويكبر عن خلافات هذه القيادات وأن يتعظ من تاريخ أسلافه.
والارتهان لثابتين مهمين مبدأ التصالح والتسامح ومبدأ النضال السلمي اليومي ويتحلى الجنوبي ويدمغ بهذين المبدأين في حياته اليومية وأن يسمو على الانفعالات والغلو والتطرف وأن يقبل بالآخر على علته وأن يتآخى مع قضيته ويتشرب كل المثل والقيم النبيلة الذي أنتجها الماضي وأن يجلد ذاته نقداً على هفواته السابقة.
والصنمية واحدة من أخطر هفوات الماضي فلقد صنّمنا وألّهنا شخصيات مما جعل هذه الشخصيات وهذا ما أثبته التاريخ تدخلنا في محكّات الخروج منها يتطلب ثمناً باهظاً لذا فعلى قيادات الحراك أن تضم جميع ألوان الطيف السياسي الجنوبي على اختلاف طبقاتهم وألوانهم وأن لا يصنعوا أصناماً تعبد وأن يكون التغيير دورياً بالانتخاب الحر المباشر وعلى القيادات الحالية أن تعد البرنامج والرؤية السياسية الواضحين وأن تقبل بمبدأ المناوبة في قيادة الحراك وأن لا تصنع لنفسها سياجاً سياسياً يحتكر السلطة على الحراك وعليها أن تجدد من أشكال وأنماط النضال السلمي بدءاً من الاعتصام حتى المطبوعة والملفوفة وما فوق وأن لا تجعل النضال مجرد روتين مستقلة حماس الجماهير وتضحياتها.
لقد آن الأوان لقيادة الحراك أن تتأنى وأن تفحص وتدرس نتائج سنوات الحراك بالنظر إلى هذه الظروف والمستجدات التي من ضمنها تأزم النظام واختياره العنف وسيلة لقمع الحراك وإقامة كونفرنس يناقش معطيات سنوات الحراك ويقدر عالياً ما قدمته القيادات خلال هذه السنوات وانتخاب دورة قيادية جديدة توائم وتواكب المعطى السياسي بإرادة سياسية بعيدة عن شطط الماضي وأن تسلمها بقلب مفعم بالرضاء عن ما قدمته خلال السنوات الماضية إلى قيادة حيوية لتقود الحراك لمرحلة وهكذا مع المتغير السياسي والتاريخي تتغير القيادات، وليس شرطاً من الأقطاب الكبيرة والمعروفة وإنما من الشباب المؤمن بقضية الجنوب والمستوعبين لمآزق ومنعطفات النضال السلمي اليومي.
إن الدأب في النضال السلمي لرؤية سياسية صريحة وواضحة أن لا خلاف لنا مع الوحدة وإنما اختلافنا مع سلطة الفيد والغنيمة كل ما يهمها هو استنزاف ثروات الجنوب وتعرف جيداً أن هذه الوحدة التي يدعيها نظام الجمهورية العربية اليمنية لم تعد في يده وإنما تتلافظها لوبيات الفساد ولم يعد يحتكم على شيئٍ منها إنما يصله نصيبه من ثروات الجنوب خراجاً، إن لا خيار لنا سوى النضال السلمي الذي قطعاً سيجر المجتمع الإقليمي والدولي حقوقياً وسياسياً على التعاطف مع قضيتنا، إننا نتحاج إلى الحظ مرة واحدة وإنما يحتاج النظام للحظ آلاف المرات لنظفر بدولة مدنية متعددة الخيارات تقبل بالجميع ولا تستثني أحد لأن الوضع الحالي يجعلنا أرضاً خراجاً لسلطة الفيد والغنيمة، مع الابتعاد عن كل ما يمكن أن يجرنا إلى مطلب آخر أقل شأن من فك الارتباط وعودة الأرض والكرامة وبناء الدولة.

أحمد جعيم ناصر