المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قبسات فقهية ... الحفاظ على المال العام


Bahlool
2008-02-09, 01:21 PM
قبسات فقهية ... الحفاظ على المال العام
د. عبدالفتاح إدريس

الدولة الإسلامية أمينة على المال العام، فلا يحق لها التفريط فيه، أو إساءة استخدامه أو توزيعه حسب الهوى، بل لا بد من مراعاة الضوابط الشرعية في ذلك كله، وإنفاقه في وجوهه المشروعة، ورسالة الإسلام وهديه في الحكم قائمة على مثل أخلاقية عليا ينبغي تحقيقها: من الصدق والأمانة والبر والرحمة والعفو والصفح والعدل وما سوى ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، فمن استرعاه الله على مال عام، ينبغي أن يعلم أنه ليس مخوّلاً في أن يفعل به ما يشاء، وأن يتخوّض فيه بغير حق، بل عليه أن يستشعر أن موقعه من المال العام خطير وأنه عن كل شيء محاسب مسؤول، وأن يده لا تطلق في هذا المال من جميع الوجوه، بل هي مقيدة مغلولة بقيود الشرع وضوابطه، التي لابد من مراعاتها عند إنفاق هذا المال في وجوه الصرف المختلفة، ومما يدل على ذلك قول الله تعالى: “وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون”، (الغلول: هو الخيانة في المغْنَم، والسرِقَة من الغَنِيمة قبل القِسْمة)، قال ابن عباس وعكرمة وابن جبير: نزلت هذه الآية بسبب قطيفة حمراء فُقدت في المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم: لعل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذها؛ فنزلت الآية، فالنفي هنا لإمكان وقوع الفعل وليس لحله أو جوازه، فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، قال القرطبي: “أي يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، معذباً بحمله وثقله، مرعوباً بصوته، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد”، وإذا كانت الآية نزلت في سبب خاص يتعلق بحادثة معينة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها تعم كل غلول، وكل اعتداء على المال العام، وكل إساءة للتصرف فيه، وكل خيانة؛ لما تقرر عند أهل الأصول من أن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، ومن الأحاديث الدالة على وجوب الحفاظ على المال العام، وعدم تضييعه أو إنفاقه في غير وجوهه المشروعة: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ردوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة”، (الشنار: هو العيب)، فالحديث يوجب رد كل شيء من المال العام وإن تدنت قيمته، بمقدار قيمة المخيط والخيط، وروي عن عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من استعملناه منكم على عمل فكتمَنا مخيطاً فما فوقه، فهو غلول يأتي به يوم القيامة، فقام رجل من الأنصار أسود، كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك، قال: وما ذاك؟، قال: سمعتك تقول كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقوله الآن: ألا من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أعطي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى”، وهذا يدل على أن يد الموظف على المال العام مقيدة بضوابط الشرع، وأنه لا ينفق منه إلا ما أذن له فيه، ولا يأخذ منه إلا ما أعطيه، وأما ما أخذه منه ولو كان قليلاً فيجب عليه رده إلى موضعه، وروي عن أبي رافع رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل، فيتحدث معهم حتى ينحدر إلى المغرب إذ مر بالبقيع، فقال: أُف لك، فلزقت في درعي وتأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: مالك؟، فقلت: أحدثت حدثاً يا رسول الله؟، قال: وما ذاك؟، قلت: إنك قلت لي كذا، قال: لا، ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعياً على آل فلان فغل نمرة، فدُرع الآن مثلها من نار”، (والنمرة: بردة من صوف)، وهذا الحديث يدل على أن من أخذ من المال العام شيئا عذب به في قبره كما يعذب به يوم القيامة، وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت، أرسل في أثري فردني، فقال: أتدري لم بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فهو غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك”، وهذا الحديث في دلالته على حرمة الأخذ من المال العام بغير إذن كالحديث السابق والذي يليه، كما أن فيه تحذيرا من ذلك، وروي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: “بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً، ثم قال: انطلق أبا مسعود، ولا ألفينك يوم القيامة تأتي على ظهرك بعير من إبل الصدقة، له رغاء قد غللته”، فأين هذا مما يفعله كثير من موظفي الدولة في أيامنا هذه، من الاستيلاء على المال العام بحيل خبيثة ربما يغفل الشيطان عنها، ويستحلون ما أخذوا ويستمرئونه، وكأنهم بهذه الحيل ووسائل الخداع ناجون من عذاب الله يوم القيامة، ولكن هيهات بعد هذا الوعيد الشديد الوارد في نصوص الشرع لمن يفعله، فلا يظنن ظان أنه إن فعل ذلك ناج من المحاسبة عليه مهما اتبع من حيل لتغطية فعلته، أو خادع للتمويه على سوء ما أقدم عليه.